للمغرب زوجة وعشيقة...زوجته هي إسبانيا التي يربطه بها عقد قران رسمي ممهور بتوقيع الجغرافيا، يعرفها منذ ملايين السنين، وهي تعرفه حق المعرفة، لكن الوقت لم يفعل شيئا غير مراكمة المشاكل الزوجية بينهما، أما عشيقته فهي فرنسا التي تعرف عليها متأخرا، جاءته تجر جيوشها التي هزمته وأسقطته في حبها منذ معركة إيسلي، ثم دخلت بيته بزواج عرفي عام 1912، ولم تخرج منه رغم تمزيق "الورقة" التي تجمعهما، هو الآن يحبها كثيرا، وعندما تتجمع الغيوم في سماء علاقاتهما يركض صوب زوجته- إسبانيا- ليغيض العشيقة حتى تعود إليه مهيضة الجناح. عندما يلتقي المغاربة بالفرنسيين يتحدثون عن المستقبل، وعندما يلتقون بالإسبانيين تجثم على أنفاسهم مشاكل التاريخ والخلافات "الزوجية" القديمة والحديثة. وعندما جاء ماريانو راخوي، رئيس الحكومة الإسبانية، في أول زيارة له إلى المغرب مطلع عام 2012 لم يضع اعتباطا في خطابه عبارة " أنا أعتبر نفسي صديق المغرب"، كانت تلك إشارة سياسية ونفسية، يمحو بها ما مضى، ويستشرف مستقبلا، يعلم جيدا أنه موجود على حزام الزلازل. صداقة راخوي للمغرب تعكر صفوها "الحروب الصغيرة" التي تندلع في كل مكان، ولم ينس يوما أن الآلاف من المغاربة ساروا في مسيرة معادية له ولحزبه يحركها "عشاق فرنسا" داخل دواليب السلطة بالجار الجنوبي، حتى أنه ألغى المغرب من قائمة الدول التي يمكن أن يقضي فيها إجازته الصيفية، لكنه نسي كل ذلك عندما جلس على كرسي السلطة المصنوع من الإبر. استطاع الفرنسيون بدهائهم ونظرتهم المنفعية أن يوسعوا شبكة مصالحهم في المغرب منذ استقلاله، ولم يكن ذلك مبنيا على فراغ، فالاستعمار الفرنسي بنى وشيد طيلة أربعة عقود من الزمن، وركز دين الفرنكوفونية في قلوب النخبة المغربية، لا من أجل سواد عيون هؤلاء، بل لكي تستفيد الأجيال الفرنسية المتعاقبة من المغرب، وتحقق نتائج اقتصادية مهمة تدر عليها أرباحا طائلة، الفرنسيون يرفعون سرا شعار: مصلحة فرنسا هي الأولى، وعلنا يتظاهرون بخدمة مصالح شركائهم، كل ذلك في صمت وبدون ضجيج. تباكى الإسبانيون في قنواتهم التلفزيونية بعد مصادقة البرلمان الأوربي على الاتفاقية الفلاحية، وقال بعضهم إن مشكلتنا هي مع فرنسا، لأن اللوبي الفرنسي مستفيد من القطاع الفلاحي بالمغرب، لذلك كثف جهوده لمصادقة البرلمانيين الأوربيين على الاتفاق، وفشل اللوبي الأوربي في مسعاه بعدما نجح في تعطيل القرار الأوربي لشهور طويلة، خصوصا بعد الصفعة التي تلقاها على خده إثر إجهاض اتفاقية الصيد البحري، هي صفعة كانت موجهة للمغرب ذي الخد الفرنسي، لكنها تهاوت في النهاية على خد إسبانيا. لم تترك إسبانيا في شمال المغرب أية بنية تحتية أو شبكة مصالح يمكنها أن تخدمها إلى الآن، كل ما تركته هو الغبار والحجارة في شمال المغرب، وكيلوغرامات من المشاكل ناتجة عن عقدة قروسطية تجسدت في استمرار احتلالها لمدينتين في شمال المغرب، ومحاولة محاصرة هذا الجار الجنوبي عبر بناء قواعد عسكرية في الجزر الجعفرية، وحولت ذلك إلى عقدة مرتبطة بفكرة الوطن الذي لا يتجزأ، فسبتة ومليلية كما يقول جيراننا إسبانيتان قبل انضمام إقليم نبارا إلى إسبانيا. أشياء كثيرة تربطنا بالجارة الشمالية، منها الجغرافية والتاريخ، لكن الجغرافية والتاريخ أيضا هما سبب المشاكل التي تجمع بين بلدينا، فبينما وصلت علاقات المغرب مع عدة دول أوربية إلى الاستثمار والتعاون في قطاعات تكنولوجية وصناعية مهمة، مازالت صراعاتنا مع إسبانيا متمركزة حول السردين والطماطم، وهما منتوجان لا يصلحان إلا لتحضير طاجين لجميع أفراد العائلة. الإسباني، شخص مزهو بنفسه، تلقى في المدارس وعلى مقاعد الكنيسة أنه أحسن شعوب الأرض، طرد الإسلام من أوربا، وغزا قارة بأسرها جاء منها بالذهب، وحارب الإنجليز، وكانت له إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، لكنه الآن مواطن أوربي مهمش، تجلد التقارير الاقتصادية بلده كل يوم، وتقرض الأزمة جسده مثل جرذ جائع، وقفت طويلا في سور المعكازين بطنجة -قبل أسابيع- أنظر إلى عازف الساكسوفون الإسباني الذي وقف يعزف موسيقى غريبة على مسامع المغاربة، ويضع قبعته أمامه حالما بأن تداعب النغمات شغاف القلوب، لتمطر الرحمة، في قبعته، دراهما يسد بها رمقه، خلفه بدت جبال الأندلس حزينة ترثي حال قوم أذلوا بعد عز..