كشفت الأحداث التي عرفتها مصر خلال الأسبوعين الماضيين جملة من المعطيات المرتبطة بالانتقال الديمقراطي المرغوب فيها عربيا، واتضح للجميع أن التحول الديمقراطي في العالم العربي تعترضه عوائق جيواستراتيجية ذات علاقة بوظيفة ومكانة هذه الرقعة الجغرافية في المنظومة الدولية (النفط، اسرائيل، المعابر المائية، الهوية..)، كما أن التحول الديمقراطي يصطدم بعوائق ذاتية وموضوعية مرتبطة بالتركيبة الاجتماعية والثقافية الذهنية للمجتمع العربي، كما ترتبط بطبيعة التشابكات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المرسومة منذ بداية القرن العشرين. لقد اتضح أن الانتقال الديمقراطي ليس تمنيات بل برنامج مجتمعي يتطلب تحييد العنصر الخارجي وتأسيس توافقات داخلية على أساس مشروع مجتمعي يجد فيه كل طرف حظه ومصلحته، وكذلك التحييد المتدرج لعوامل وآليات و ميكانيزمات التخلف والانحطاط والفساد السياسي والاقتصادي والمجتمعي الذي أراده البعض أن يستمر لكي يديم تموقعه السلطوي على رقاب العباد. إن ما جرى في مصر وما يجري في دول الربيع العربي (تونس، ليبيا، اليمن، المغرب) وكذا ما حدث في البحرين وما جرى من تحول في قطر وما يعتمل على الرقعة السورية واللبنانية يكشف أن عملية هضم الديقراطية على المستوى السياسي، وما بالك على مستوى منظومة القيم والتداول، أمر يتطلب استراتيجيات ابعد وأعمق يأخذ بعين الاعتبار تفاعل الداخل والخارج وكذا حجم التحديات والرهانات المرتبطة بالتحول الذي يتطلب عمليات قيصرية ذات أمد متوسط وبعيد. إن التجربة المصرية كشفت لنا ثلاث حقائق رئيسية إلى حدود اللحظة: أولا: ما حدث في ثورة 25 يناير لم يكن النهاية أو البداية، بل كان مسلسلا، واتضح حاليا أن البعض ساير موجة التحول دون قناعات ديمقراطية حقيقية، بل كان الكل ينتظر الفرصة للانقضاض على التجربة، وكانت معاقل قوى الارتداد الأساسية تتمثل أساسا في الجيش و أصحاب غنائم عهد مبارك وبعض التوجهات الايديولوجية والإعلامية المناوئة للتوجه الإسلامي المستفيد الأكبر من التحولات الجارية. وهو ما يعني كخلاصة أن التحول صيرورة ممتدة في أعماق المؤسسات والأنفس ومجالات التدخل، وليست العبرة فقط بحدوث الانتقال من خلال سيناريو الإصلاح من الداخل أم حصل عبر ثورة مسلحة أم من خلال هبة أم انتفاضة جماعية. ثانيا، أكيد أن اعتراف الرئيس المصري محمد مرسي بارتكاب بعض الأخطاء أثناء ممارسة الحكم فتحت المجال لإحصاء حجم الأخطاء والهفوات، ومع التأكيد أن التدبير السياسي يرتبط دائما بإمكانات الخطأ وأن كل الأخطاء لايبرر معطى الانقلاب على الشرعية، إلا أنه ينبغي التأكيد على أن أبرز خطأ ارتكب في الساحة المصرية، ولبنية التفكير لدى الإخوان المسلمين نصيب منه، هو تغييب معطى التوافق المجتمعي في الساحة السياسية المصرية، نعم الديمقراطية أقلية وأغلبية، لكن في زمن الانتقالات الديمقراطية الديمقراطية أعمق من عدد المقاعد وحجم التأييد الشعبي، الديمقراطية زمن الانتقال هو توسيع لقاعدة الحكم وإعمال للمقاربات التشاركية والتفاعلية وتوسيع الاستشارات والاصطفافات المجتمعية. ثالثا: إن الانتقال الديمقراطي في أي بلد لا يمكن أن يقفز، مهما صلحت البدايات ومابالك إذا كان هناك دخن في بعض النيات، على تحديات منظومة التحول، الانتقال حزمة من الإصلاحات متدرجة في الزمان والمكان، وإذا كانت الدول العربية التي شهدت حراكا اجتماعيا قد انقسمت من حيث سيناريوهات التحول إلى أربع خانات: أولها يمكن أدراج دول الخليج العربي والجزائر فيها حيث سيناريو" استمرار الوضع القائم" ، ثم هناك النموذج السوري ذات التكلفة العالية والمفتوح على كل الاحتمالات. السيناريو الثالث تشمل الدول العربية التي عرفت حراكا حقيقيا وأنتجت مؤسسات على هذا الأساس ولا زالت تكافح من أجل تحويل حزمة مطالب الثورة أو الإصلاح إلى منظومة مؤسساتية تستقر عليها الديمقراطية والتداول السلمي الحقيقي للسلطة وتتموقع فيه كل مؤسسات النظام السياسي كل ضمن دائرة تخصصه وحاجة المجتمع إليها. السيناريو الرابع هو ما حصل في مصر حيث قوى الارتداد استعادت المبادرة بمباركة خارجية للانقضاض على أساسات الثورة الأولى. في هذا الصدد هل يمكن الحديث عن موجة ثورات ثانية للتعديل الوراثي للحراك التي عرفتها سنة 2011؟ ثم ما هو موقع المغرب مما يجري وهل يمكن أن يحصل تعديل في مساره الإصلاحي؟ لقد سعى بعض الأقلام المغربية، مع انقلاب العسكر على الشرعية في مصر، إلى محاولة جر المغرب ليعيش ولو نفسيا التجربة المصرية، كان ذلك بهدف التشويش على التجربة المغربية، كما سعت بعض الأوساط كذلك إلى جر الساحة للنقاش الايديولوجي حول سبب ادعاء فشل تجربة الإخوان المسلمين التي تم عبرها تبرير فعل الانقلاب، كذلك سعى البعض من القوى النافذة هنا إلى محاولة تحصين مواقعها وتحسين مواقع التفاوض في المستقبل في حالة الحديث عن مفاوضات لإعادة توجيه السكة. لقد كان السياق مختلفا تماما، وهو ما أدى إلى فشل كل محاولات جر المغرب لكي يعيش التجربة، لقد فشلت محاولات بعض قوى اليسار وبعض أوساط التحكم في مصرنة المغرب نفسيا، وذلك بفعل عدد من العوامل أجملها كالتالي: أولا: سيناريو التحول في مصر يختلف عن ما جرى في المغرب، ثم أن قطب الرحى في النظام السياسي في المغرب يتمثل في مؤسسة ملكية ذات مشروعية دستورية محسومة وتلعب دور الحكم بين الفرقاء وتضمن الاستقرار، في حين قطب الرحى الحالي في النظام المصري يختلف بين ما هو مدون في الدستور وما هو حاصل في الواقع، إن ما جرى في مصر هو تنازع بين منطق القوة وقوة المنطق، تنازع بين القوة الغالبة والشرعية الدستورية. لذلك المقارنة هنا مستحيلة بالمرة ثانيا: هناك اختلاف جوهري، بفعل عدد من العوامل، في المنظومة التعاملية بين الفرقاء السياسيين والثقافيين والإعلاميين وهيئات الفعل المدني بين مصر والمغرب، ذلك أنه لا يمكن مقارنة حجم التباين والصراع الايديولوجي في الساحتين، في مصر تأسست على مدى عقود إن لم اقل قرون ثقافة الاختلاف بحدة بل الصراع الذي يشحذ كل الأسلحة. حتى أصبح المجتمع المصري عبارة عن مجتمعين ثقافتين تحت سقف واحد، لكل أدواته التعبيرية وميادينه واهتماماته، في حين الصراع الايديولوجي في المغرب، بفعل عوامل الانفتاح السياسي والمجتمعي الذي سمح به في المغرب على امتداد تاريخه، صراع نسبي وهامشي ولا يمتد إلى كل المساحات. ثالثا: بالرغم من محاولات البعض وضع الحركة الإسلامية في حزمة واحدة من حيث المنطلقات والتوجهات وبنية التفكير ومنطق تصريف القناعات. إلا أنه هذه المحاولات التصنيفية غير دقيقة، بل الواضح أن داخل الحركة الإسلامية يمكن الحديث عن تيارات وتوجهات وقناعات متعددة. فلا يمكن مقارنة توجه حزب العدالة والتنمية في تركيا مثلا عن التوجه السلفي، كذلك التيار المشارك بدأ يبني قناعات ديمقراطية من حيث المشاركة والمقاربة أكثر اتساعا، سواء أكان ذلك حصيلة لقناعات مبدئية أصلية على المشاركة أم بفعل إستذماجها في منظومة القناعات بفعل ضغوط وتحديات وقع الممارسة. من هنا فإن اختلاف من حيث مناهج الممارسة السياسية لتنظيمات الحركة الإسلامية في الرقعة العربية، ينعكس بشكل أساسي على طبيعة المسارات التغييرية في كل دولة. الآن ماذا عن المغرب؟ أعتقد أن المغرب، بفعل العوامل المذكورة سلفا، يتوفر على مساحة زمنية تاريخية قصد ترسيخ نموذجه الإصلاحي المتدرج والمرتبط بسيناريو الإصلاح من الداخل، وذلك للأسباب التالية: أولا: العالم العربي تذوق طعام الديمقراطية، ومهما تصاعدت داخليا وخارجيا مساعي الارتداد، فإن التحول الديمقراطي حاصل لامحالة، المشكلة تكمن في زمن والتكلفة التي يمكن أن تصل بالعرب إلى سكة الديمقراطية. ثانيا: أعتقد أن التربة المغربية، تمتلك كل مقومات تأسيس نموذج متدرج وحقيقي ومؤثر لسيناريو الانتقال نحو الديمقراطية بأقل تكلفة وبسلمية مجتمعية عالية. مقومات يستمدها من طبيعة نظامه السياسي، ويستمدها من الطبيعة التوافقية لتدبير الاختلاف المغربي رابعا: لقد حصلت تراكمات في التدافع السياسي والمجتمعي منذ الاستقلال، وكانت أهم حلقاته أثناء استرجاع الصحراء، وتبني الخيار الديمقراطي، وتأسيس حكومة التوافق الأولى سنة 1988، وحركة 20 فبراير، وخطاب 9 مارس ودستور 30 يوليوز2011، وانتخابات 25 نونبر وحكومة عبد الإله بنكيران المنبثقة من تلك الانتخابات النزيهة. خامسا: لا يمكن العودة إلى الوراء بالنسبة للمغرب، على اعتبار أن ما حصل بفعل تراكم اقتنع به الفاعلين الأساسيين في النظام السياسي المغربي، ولو تناسلت كتابات وتصريحات بعض الأطراف التي تحن للسلطوية وللمنطق الايديولوجي سادسا: أظن أن كل الفاعلين في الساحة المغربية قد استوعبوا الدرس المصري، والمطلوب في نظري توسيع قاعدة التوافق وتسريع وتيرة الإصلاحات، خاصة التي تمس المواطن المغربي في معيشه، والكف عن سياسة التشويش على المسار، لأن الرابح في النهاية لن يكون طرفا سياسيا بعينه، بل الرابح سيكون هو النموذج المغربي في التغيير أعتقد أن الحراك العربي ما تزال أجندته متقدة، وقد لاحظنا رغبة أطراف حزبية وايديولوجية في إعادة الحراك عربيا ومغربيا إلى المربع الأول، في حين أن المغرب قطع شوط الدستور والانتخابات وتكريس عدد من المؤسسات، والهدف الذي يجب أن تتوجه له كل الجهود الخيرة هو رفع التحديات الاقتصادية والاجتماعية لمعطى الإصلاح المغربي، وأظن أننا كمغاربة أمام فرصة تاريخية لتعزيز المكتسبات وتسويق نموذج غير مكلف في الزمن والتكلفة للانتقال الديمقراطي في الرقعة العربية التي لا تزال قاحلة ومستعصية على نبات الديمقراطية.