حصاد الجولة الأولى من الربيع العربي.. أجوبة المغرب متقدمة... ومفتاح قفل التغيير الشامل بيد إخوان مصر ما موقع التجربة المغربية في بحيرة الربيع العربي الذي انطلق منذ أزيد من سنة ونصف ؟ سؤال خطر ببالي وأنا أستمع الأسبوع الماضي إلى عضو المجلس العسكري المصري اللواء المختار الملا مهددا في ندوة صحفية كل من يقترب من عرين العساكر بالويل والثبور. كنت في المنامة عاصمة البحرين، وكنت لتوها عدت من زيارة لميدان اللؤلؤة الذي شهد قبل أزيد من سنة أحداثا لا زالت معالمها مرسومة على محيط الميدان. بين الرباطوالقاهرة والمنامة ثلاث نماذج في الاستجابة لمطالب الإصلاح السياسي. رحلة إلى المشرق العربي مكنتني من ملامسة بعد أوجه التحولات الجارية على الصعيد العربي. مجالسة ديبلوماسيين عرب، و النزول إلى شوارع عواصم خليجية، ومتابعة الإعلام المحلي في تلك الدول جعلتني أتساءل: إلى أين صار الربيع العربي؟ وما هو النموذج الأمثل للتغيير نحو الديمقراطية في ساحات العرب التي مازال الانتقال الديمقراطي عصي المنال؟ لنبدأ أولا بوصف حالة العرب بعد الموجة الأولى من الربيع العربي. مسارات الربيع العربي تركت مطار محمد الخامس بالدار البيضاء على أمواج السجال على دفاتر التحملات، وانطلقت الطائرة صاعدة لتحلق على بعد 11 ألف متر فوق سطح البحر، كيف يمكن النظر إلى واقع العرب من الجو وبعيدا عن المعيش اليومي؟ في مطار قرطاج الدولي صعد التوانسة وبعض الليبيين، جرائد تونس تحكي عما يجري في بلاد البوعزيزي بعد الثورة: إشكالية الدين والسياسة، بطالة الشباب تستفحل، غلاء الأسعار، الإعلام العمومي ومبدأ الحياد، الحريات الفردية... بالمقابل دردشة مع ديبلوماسي ليبي الذي كان يتكلم بحرقة: ما يجري في ليبيا خطير، ويمكن أن يؤدي الوضع إلى بروز نزعات انفصالية، السلاح لدى القبائل، مجاهدي الأمس ضد نظام القذافي يطالبون اليوم بوضع اعتباري خاص في دولة بعد الثورة...في الدوحة لا شيء يعلو على صوت الجزيرة، وصراع الإشاعات بين الدوحة ونظام الأسد السوري على أشده... في جدةوالرياض، لا شيء يوحي بأن الربيع العربي مر من هنا ... مستجدان طفحا على السطح وتضاريسهما بادية للعيان في الرياض: الوفرة المادية المتحصلة من ارتفاع أسعار البترول في السوق الدولية للنفط وفرت للأسر الحاكمة في الخليج هامش المناورة... تلبية مطالب اجتماعية مقابل تأجيل المطالب السياسية التأسيسية، أمر ثان هو الصراع الخفي المحتدم بين الرياضوالدوحة لملأ الفراغ الذي تركته مصر عربيا بسبب انشغال القاهرة بهمها الداخلي. في سلطنة عمان توسيع صلاحيات مجلس الشورى لم يمنع من أن السلطان قابوس بن سعيد لا زال هو الكبير في السلطنة. في المنامة شبح أحداث السنة الماضية ما تزال تخيم على الأجواء، بالرغم من أن البحرينيين اكتشفوا منهج الإنصاف والمصالحة لمعالجة سنة الرصاص. في تلك الأجواء ما تزال سوريا، التي تجد لأسماع الرصاص المنطلق في البلدات والمدن السورية صداها في الرياضوالدوحة، تبحث عن المخرج لجنون الأسد.. السودان منشغل بالحرب مع الجنوب الذي كان يوما جزءا منه. أما الجزائر فبقيت لحد الآن في كرسي الاحتياط العربي للتغيير. بالمجمل فإن حصيلة مسار التغيير العربي ما تزال غير مكتملة، ولاشيء قد تم حسمه في مآل التغيير نحو الدمقرطة بطبعتها العربية. من خلال ما تقدم يمكن تصنيف العالم العربي من حيث طبيعة التحول في سياق رياح الربيع إلى أربع خانات، داخل كل خانة هناك أيضا تفاوت يهم عمق وتجذر مسار التحول: أولا، هناك خانة الدول التي شهدث ثورات وأسقطت أنظمة سابقة وتصارع حاليا من أجل إقامة شرعية جديدة، داخل هذه الخانة تندرج تونس، مصر، ليبيا. ضمن هذه الخانة يبقى النموذج التونسي أكثر تقدما، النموذج المصري مرشح للارتقاء نحو تعزيز أسس الشرعية، بالمقابل النموذج الليبي مفتوح على كل الاحتمالات ثانيا، دول لم تعرف هبات حقيقية، وتدخل ضمن هذه الخانة كل من السعودية، قطر، الإمارات العربية المتحدة، سلطنة عمان، الجزائر، موريطانيا ثالثا، خانة الملكيات الدستورية التي عرفت حركات اجتماعية مطالبة بالتغيير، وتفاعلت معها الأنظمة بشكل متفاوت، هنا تدخل الأردن، البحرين، المغرب. التفاعل تراوح بين الاستجابة الذكية للمطالب الاجتماعية والسياسية (المغرب) إلى نوع من السعي لاحتواء المطالب (الأردن، البحرين)) رابعا، هناك دول لا تزال الثورة مشتعلة فيها وتندرج سوريا ضمن هذه الخانة وإلى حد ما اليمن ويمكن القول أن خبرات كل مجتمع والواقع المعيش، وطبيعة النظام السياسي في كل بلد، وثقل صف المعارضة، والخبرات السياسية في التفاوض بين مختلف الأطراف، ومدى حيوية الحقلين السياسي والمدني، كلها عوامل ساهمت في تغليب سيناريو عن الأخر في كل دولة على حدة، مع التأكيد أن احتمالات التطور مطروحة في كل ساحة من ساحات العالم العربي. 10 خلاصات مركزية بعد هذا الوصف الموجز أتوقف عند بعض رهانات الحاضر والمستقبل، وألخصها في عشر ملاحظات: أولا: في قراءة لمختلف ساحات التغيير في العالم العربي، يتضح أن النموذج المغربي يظل الرقى من حيث الفاعلية والنجاعة والأثر. فإذا تفحصنا طبيعة الأسئلة المطروحة على سبيل المثال في دول الثورة الناجحة (مصر، تونس، ليبيا) يتضح أن الأسئلة المطروحة في تونس الثروة تماثل نفس الأسئلة المطروحة في مغرب مابعد دستور 2011 (الدين والسياسة، الإعلام العمومي، الدستور، التوافق السياسي...) بل هناك أسئلة تجاوزتها التجربة المغربية في ما تزال التجربة التونسية تجتهد للإجابة عن تفاصيلها: المشروعية والشرعية، ماذا بعد استنفاد بطارية "الترويكا" الحاكمة ؟ دون الحديث طبعا عن السبق الذي تعرفه التجربة المغربية عن نظيرتها المصرية والليبية لحدود اللحظة. كل هذا مع التأكيد على أن الإصلاح في المغرب تم في إطار الاستمرارية وتكلفته السياسية والاقتصادية والاجتماعية أقل بكثير مما كلفته تجارب مصر وليبيا وتونس ثانيا، العالم العربي أصبح مثل "الدومينو"، أي أن أي تحول أو تعديل في رقعة عربية سيؤثر بالضرورة على باقي الساحات إيجابا أوسلبا، فنجاح الثورة الشعبية في سوريا أو قدرة مصر على تجاوز المرحلة الانتقالية بنجاح وتأسيس نظام سياسي يعيد لمصر توازنها وقيادتها للعالم العربي، كل ذلك سيدفع عجلة التغيير في الساحات العربية الأخرى نحو الأمام وستنكمش إرادات السلطوية في تلك البقع ثالثا، الأكيد أن الذين يراهنون على أن ثمار الثورات أحلى وأنضج من مزايا الإصلاح في إطار المشروعية قد خاب ظنهم، خاصة عندما تجد حركات التغيير والإصلاح نفسها أمام نظام سياسي مستعد لتقاسم أعباء التحول التدريجي نحو الدمقرطة. فالانتقال الديمقراطي في النهاية هو نوع من الاستعداد من قبل أطراف متضاربة المصالح، داخل الدولة الحاكمة ومن داخل الحقل السياسي الممثل لمطامح مجتمعية، على تقاسم التضحيات وتقاسم غنائم الحكم رابعا، في كل ساحات التغيير العربي، خاصة في دول ما بعد الثورة، هناك سجال بين مختلف التيارات المتصارعة وهناك تباينات حول شكل الدولة، والأكيد أن النقاشات الكبرى لا تحسم بالأغلبية العددية، بل القضايا الكبرى تتطلب نوعا من التوافق بين أطياف المجتمع بغض النظر عن تمثيلياتها خامسا: التيار الإسلامي على عاتقه يقع كاهل إحداث التحول، فإذا كان التيار الوطني والقومي كان على عاتقه تأمين الأوطان ضد هيمنة الآخر الأجنبي وكان على التيار اليساري رفع مطالب الطبقات الاجتماعية الأقل حظا، فإن التيار الإسلامي في عموم العالم العربي تقع مسؤولية تأمين أوطان العالم العربي للانتقال من دول التسلط إلى دول الشرعية والمشروعية الديمقراطية. على التيار الإسلامي إبداع نماذج قابلة للتعايش والانزياح عن فقه التنظيم الذاتي لترك المساحة للوطن المختلف ألوانه وتشكيلاته من التعبير الحر، التيار الإسلامي أمامه فرصة تاريخية لإنجاز ما فشل فيه التيارين القومي واليساري. الديمقراطية أولا الوطن أولا والتنظيمات أخيرا. على التيار الإسلامي إبداع نماذج خلاقة لتعايش الدين مع السياسة، مقاربة لضبط مسارات الدولة وتنزيل هيبتها دون تعارض مع تطلعات المجتمع، إبداع لمقاربة الحريات الفردية والجماعية، وتوليفة خلاقة لمجال الخصوصية مع الكونية. بخلاصة إنجاز تحول تاريخي نحو مدنية الدولة بمرجعية لا تتعارض مع أساسات الإسلام وفي ذات الوقت لا تتعارض مع روح العصر الحديث سادسا: قفل التحول في العالم العربي للخمسين عاما المقبلة موجود في مصر، لماذا؟ لأن مصر قلب العالم العربي، ونظرا لثقلها الديمغرافي. وكما قيل " لا حرب للعرب دون مصر ولا سلام دون مصر"، يمكن القول بأن لا تحول جوهري نحو الديمقراطية في يباب العالم العربي دون أن تتدمقرط مصر. إن عودة مصر لتلعب أدوارها في العالم العربي بنفس ديمقراطي وبحكم يحظى بالشرعية الديمقراطية كفيل أن يحدث تحول في كل الرقعة العربية باتجاه تغليب دول التحول نحو الديمقراطية على دول تراهن على استمرارية حكم القبائل والعشائر وتأجيل الإصلاح السياسي. قفل التحول موجود في القاهرة إذن. وحان الوقت لتقديم نموذج ديمقراطي مجتمعي أكثر جاذبية يدخل العرب فيما يمكن تسميته بالموجة الخامسة للديمقراطية سابعا: إذا كان قفل التحول العربي في المدى المنظور موجود في القاهرة فإن مفتاح هذا القفل هو لدى حركة الإخوان المسلمين المصرية، لماذا؟ أولا لأن حركة الإخوان المسلمين أكبر تنظيم في مصر اليوم وهو الماسك بميزان التحول في مصر، ثانيا حركة الإخوان المسلمين أكبر تنظيم عالمي ويمتلك روابط مع إخوان فلسطين والأردن واليمن وسوريا، وممكن التأثير في باقي الساحات. الانتخابات النيابية والتصويت على الدستور وقبلها ثورة إسقاط مبارك أثبتت قوة التنظيم وجماهيريته. لكل هذا فمسار التحول في مصر لا بد أن تكون لأخوان مصر بصماته القوية فيه. لذلك فمفتاح قفل التغيير في العالم العربي في يد إخوان مصر. لذلك المعول عليهم الاستفادة من تجربة المغرب وتونس وباقي الساحات لإنجاح تجربة الانتقال الديمقراطي في قلب العرب. ومن مفاتيح إنتاج التجربة: نهج مسلك الديمقراطية التوافقية بديلا عن الديمقراطية الأغلبية العددية، المقاربة التشاركية مع الجميع، فسح المجال للمجتمع المدني للتعبير عن أرائه بحرية، المواطنة أساس الانتماء للوطن، استيعاب مطالب المجتمع والنساء والأقباط والأقليات، تحرير الإعلام من هيمنة الدولة، تعزيز سلطة القضاء، الانطلاق من مبدأ مصلحة الوطن ودولة الأمة بديلا عن مصلحة التنظيم، عدم إعلان الحروب على الفن والتعبيرات الجديدة، من خلا نموذج إخواني عصري متعايش يقبل بالآخر يمكن لإخوان مصر إنجاح مسار التحول ببلادهم وهو ما سينعكس إيجابا على كل الساحات العربية ثامنا، هل يمكن أن يغيب منطق السلطوية بشكل فجائي مع امتداد أسلوب الدمقرطة؟ السلطوية ثقافة وبنيات، والقضاء عليها لا يتم من خلال حلبة الصراع السياسي القصير المدى فقط، القضاء على المنطق التسلطي في الدولة والمجتمع يتطلب تغيير العقليات وذهنيات موروثة وتفكيك لبنيات سلطوية ممتدة داخل الدولة وتجد تجلياتها في عمق المجتمع. لذلك فتجارب ما بعد الثورة أو ما بعد الإصلاح السياسي في دول الربيع العربي تكشف على أن مسلسل الإصلاح حلقاته أطول وأعقد، ولا يمكن المحاججة بجولة واحدة للحكم على المسار كلية، في تونس لا زالت الأسئلة المطروحة والكل يجتهد لإيجاد أجوبة لكي لا تأكل الدولة الثروة، وفي مصر عسر التحول باديا للعيان، في كل الساحات هناك توثر بين تيار يدفع نحو الإصلاح و بقايا دولتية ومجتمعية تحبذ استمرار نفس قواعد اللعب، لكن مطامح الشعوب العربية للانعتاق تذهب في صالح سيناريو التحول الديمقراطي، حتى وإن بدا المخاض عسيرا تاسعا، عدت إلى المغرب لأجد أن الحكومة قررت تشكيل لجنة من عدد من الوزراء لإعادة النظر في بعض بنود دفاتر التحملات، كما حصل تحول في قيادة الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، هل هذا مؤشر انتكاسة؟ أبدا بالنظر المقارن إلى ما يحصل في العالم العربي فإن تجربة المغرب تبقى متقدمة في حسم مختلف الملفات الكبرى. وللمصادفة في البحرين كان ملف الإعلام مشتعلا خلال الأسبوع الماضي، إذ خصص مجلس الشورى جلسته كاملة للنظر في تعديلات تخص حرية التعبير وبث الإشاعة. بالمقابل كانت الساحة التونسية مسرحا للسجال هم حياد التلفزة العمومية. لا يمكن أن يتحقق الانتقال الديمقراطي في أي بلد دون الانتقال الإعلامي، ومادام الكل متفق على 90 بالمائة من مضمون دفاتر التحملات، فإن إعادة قراءة النص لا تعني زوال مفعول الإصلاح، لأن العبرة بخواتم صيرورة الفعل الإصلاحي، ولا عبرة لارتدادات الطريق عاشرا، خلاصة نقول بأن التحول الجاري في الوطن العربي صيرورة متحركة، الجزء يؤثر في الكل، ولغة التوافق مرشحة لأن تمنح للعرب على اختلاف مصالحهم مساحة مشتركة لبناء الأوطان على قواعد المشترك الجمعي، وعلى الإسلاميين بالذات تقع مهمة صيانة التحول بل على جميع الحركات الإسلامية اليوم أن تجيب على سؤال اللحظة التاريخية: ماذا يعني أن أكون إسلاميا اليوم في اتجاه الذات واتجاه الوطن واتجاه الأمة؟ [email protected]