يسود الترقب. تتجه الأنظار نحو أرض الكنانة، نحو المحروسة مصر. الصورة ضبابية. احتقان اجتماعي، كساد اقتصادي، توتر سياسي، إحباط فظيع يخيم على النفوس. سخط مرير يرتسم على الملامح. أجساد متمردة تكتسح الساحات، تحتشد في الميادين. معارضون، مؤيدون، مترددون حائرون. قطيع منجرف مع التيار لا يدري أين المسير. مترقبون ينتظرون ركوب الريح في وجهتها النهائية. المشهد نفسه. المواجهة نفسها. حيرة كبرى. أسئلة حارقة مختنقة تطويها الصدور الهائجة. هل أخطأت الثورة طريقها؟ أكانت طريقها مرسومة سلفا؟ أكانت مجرد مدٍّ مندفع منجرف مع التيار؟ أكانت هناك ثورة أصلا؟. يسود الشك. يتبخر الحلم الشاسع. يخبو الفرح العظيم. هل أنبتت الصحراء ربيعا حقيقيا؟. من كان يتصور أن تذوي أوراقه، أن تُمسخ أزهاره، أن تبرز من بقاياه نباتات شوكية سرابية البريق، مُرة المذاق، عقيمة البذور. لا احد يصدق. لا أحد يتصور أو يقدر على الانتظار. لازال الجرح جديدا. لا زالت الجذوة لم تنطفئ. ما زالت ريح الثورة متأهبة لدكِّ الحصون. هكذا تتحدث الأجساد. تهتف الحناجر. ينبعث الحلم الثوري من رماده. يهتف بمحاكمة المرحلة. تصرخ الحشود، تنادي الرئيس بالرحيل، تتهمه بالعجز، بالشلل أمام الواقع الأليم الأبدي. أمام هذه الحركة المتمردة ينتصب الخطاب. يقف رئيس الدولة. يحتمي ظهره برموز وأيقونات الدولة، أعلام، نسر، خلفية زرقاء مزركشة بالأيقونات السيادية. يتحدث من موقعه كرئيس للدولة، أمام جمهور متنوع من الأقربين، شيوخ وشباب، نساء ورجال، مدنين وعسكريين، رجالات الدولة، يتحدث إلى كافة الأمة من خلال عدسات التلفزيون. ماذا عساه يقول؟ كيف يتحكم في التيار المعاكس؟ كيف يوقف المد الجارف؟ كيف يضمن استمراره وينتصر لاختياراته؟ كيف يفند مزاعم وادعاءات خصومه؟ كيف يكسب تأييد الأمة؟ كيف يكسب المعركة؟. أية استراتيجية خطابية كفيلة بتحقيق النصر وإفحام الخصوم؟. لم يصرح قائل الخطاب بهذه المقدمات المحركة لخطابه. لم يشر إلى الاقتضاءات المشتركة. لم يعلن عن نيته في مواجهة المتمردين. لم يضع نفسه موضع التساؤل أو هدفا للهجوم. يحاول قائل الخطاب أن يكون هادئا، أن يتعالى فوق التناقضات، أن يستبق اللحظة، أن يوهم متلقيه أن الثورة حققت جزءا من أهدافها، أن التعثر ليس بنيويا أو حتميا أو فشلا لا محيد عنه. يحاول أن يقنع أن ما يجري أمر طبيعي، ممكن الحدود في كل التجارب؛ أن ما يحدث طبيعي في ظل الثورات وفي سيرها الانتقالي. يحاول الإقناع أن الأخطاء، إن حصلت، ليست إلا نتيجة لسوء تقدير، أو لحماس ثوري غير محسوب. يحاول الإقناع أنه الشخص الملائم في المكان الملائم. أنه رئيس شرعي، قائد ثوري، يحتل موقعه المنطقي كابن للثورة، كمختار ولدته الثورة ووضعته بمحض إرادتها في مقدمة الثوار، ووضعت على عاتقه مسؤلية القيادة، والوصول بالمركب إلى بر الأمان. كان هم حامل الخطاب، أن يبني ذاته، أن يؤسس الاقتناع بأهليتها وجدارتها. مهمة مستعصية ملقاة على كاهل الخطاب. هل يستطيع النجاح؟. يدرك قائل الخطاب أن بناء ذات مخالفة عن المألوف أمر مستحيل، غير قابل للتحقق خارج النماذج الراسخة والمترسخة عبر العصور في أعماق الذات الجماعية. يدرك أن الشعوب المقهورة – حتى وهي في أوج تمردها وعصيانها – لا تشعر بالأمان إلا تحت جناح الحاكم المستبد. يحس أنه بعيد عن هذه صورة القاهر المحبوبة، بعيد عن الشخص المحلوم به في المتخيل الشعبي. يدرك أن الشعب المصري – ككل الشعوب المقهورة – وإن كان يحلم بالثورة والتغيير، يظل عاجزا عن التخلي عن صورة الأب، عن النماذج التي تعاقبت على حكمه خلال عقود وعصور طويلة، وعلمته الطاعة والانصياع. هكذا تعلموا. هكذا تنمدجوا. يجد قائل الخطاب نفسه بين نموذجين متقابلين: نموذج الحاكم المستبد القاهر للشعوب المحبوب في الأعماق، ونموذج البطل الرومنسي الحامل لقيم الثورة وأفكارها النبيلة وأحلامها الطوباوية. أي نموذج يختار؟.هل يستعيد النماذج البالية؟ هل يستورد نموذجا من ثقافات مخالفة؟ هل يرضي الثوار ويتمرد على ذاته وأعرافه؟ المغامرة غير مضمونة النتائج. هل يلبس النماذج المرفوضة والمطاح بها من قبل الثورة، ويتظاهر بالقوة والجبروت؟ أمر مرفوض ولا يقبله الطموح الثوري؟. فكر وقرر، على حسب تعبير الخطاب. قرر أن يعترف بأخطائه وضعف تقديراته. لم يعترف الرئيس بقصوره، لكون الاعتراف فضيلة في عرف الثوار، أو لتقديم حصيلة عمله خلال سنة من تولي الرئاسة كإجراء ديموقراطي متداول لدى الآخرين. قد يكون هذان الأمران واردين ومقبولين، لكن لا يستقيمان مع إلحاح السياق وإكراهات المرحلة. الاعتراف في سياقنا ترصيع للذات، تظاهر بالاختلاف عن الآخرين، عن نماذج ما قبل الثورة، رغبة في بناء ذات مختلفة على الأنقاض. لم يدخر الخطاب جهدا في تدمير الآخر، إذ لا بناء بدون هدم. جاء الاعتراف كتقنية داخل استراتيجية الهدم والبناء. هدم الذوات السابقة، ذوات ما قبل الثورة. هكذا انبنت الاستراتيجية الحجاجية لبناء الذات على التقابل بين عالمين متناقضين. عالم سلبي يمثله النظام القديم وما تبقى من فلوله، وعالم إيجابي تمثله الثورة ونظام الحكم الجديد. يستنفر الخطاب المعجم السلبي لتدمير العهد السابق: نظام مجرم، فاسد، انتهازي، لص، مرتش، ناهب لثروة الشعب، مقامر بمستقبل الأمة. يذهب الخطاب بعيدا في تدمير الآخر، ليس من أجل تدميره فقط، وإنما لموقعة الذات القائلة خارج دائرته. كلما أمعنا في تشويه الآخر كلما ازدادت صورتنا المقابلة بريقا ولمعانا وبراءة وطهرا. أنا لست كالآخرين. أنا لست مجرما، أنا ثوري مثلكم أيها المتظاهرون، امنحوني فرصة. يقول الصوت العميق الخفي لقائل الخطاب. حين يقسم الخطاب الواقع إلى عالمين، يستثمر الحقد الدفين للمتلقين، ليموقع الذات القائلة في العالم الإيجابي، ليعزز وجودها داخل دائرة الثوار، ليؤجل الانتماءات العقدية، والاختلافات الظرفية، ليؤجل الاختلاف والصراع، ليمنح لقائله شرعية التواجد والاستمرار. من هنا يلتجئ الخطاب إلى الترقيع، إلى تعزيز الوحدة، إلى سد الثغرات. يطمئن العساكر والأمن والقضاء والشباب والأقليات الدينية، يستجدي وقتأ مستقطعا، لحظة إضافية لرأب الصدع وتصحيح الاختلالات. لكن هل يتسع وقت الزحف الجارف لهذه النداءات؟ هل يثبت الخطاب أمام قوة الإعصار؟ امتحان رهيب. يحس قائل الخطاب أنه أخطأ الطريق في بناء الذات. ينزع عن نفسه صورة البطل الرومنسي الحالم. يتغير معجمه. يلبس صورة الديكتاتور القديم. يتوعد، يهدد، يتمظهر بلباس القوي الذي لا يقهر. ينتهي الخطاب. تبدو الذات القائلة مضطربة مترددة حائرة متسائلة: هل نعود إلى الماضي ونريح ونرتاح، أم نركب أشرعة المغامرة؟. ما رأي الثوار؟..