«إذا كنت تشكو غلاء التعليم فجرب الكلفة الباهظة للجهل» ديريك بوك Derek Bok 1- اجتاح آلاف، أغلبهم قاصرون، سبتة السليبة في غياب تام للأمن المغربي. وأعلنت المملكة المغربية تعليق التعاون الأمني مع إسبانيا بعدما تمادت الأخيرة في الإساءة إلينا. والتعبير هنا على لسان أكبر الصحف الإسبانية ..ABC الرد المغربي كان قاسيا، وستكون له بلا شك تداعياته على الحكومة الإسبانية الحالية، ولكن أيضا كلفته الداخلية كانت جد صادمة.. طالعنا أحد المواقع بخبر عن مغاربة ميسورين صدموا لهذا المشهد؛ حينما كان أحد الشباب يصيح: والله أنا ما مغربي.. فيما انتقدت امرأة بلغة حادة أعلى سلطة في البلاد، والغريب هو الموقع الذي أذاع تصريحاتها دون مراعاة حالة الغضب التي كانت عليها، والتي قد تفقد أشد المتعقلين رشدهم وتدفعهم للتفوه بما سيستنكرونه عندما يعودون لهدوئهم.. صدم المغاربة الميسورين لأنهم اكتشفوا أن تحسن ظروفهم لم تنعكس بالضرورة على كل الفئات الذي ازدادت فقرا وهشاشة.. وأقر معظمهم بأنهم لم يناموا تلك الليلة من هول المهانة التي شعروا بها. 2- ما المهين في هذا الحدث؟.. الفقر والهشاشة؟.. لا بالتأكيد فالفقر ليس عيبا ولا حراما، خصوصا بالنسبة لدول لا يتجاوز ناتجها الخام مائة مليون يورو سنويا، مستهدفة في وحدتها وثرواتها من لدن قوى لم تهضم بعد أن عصرها الاستعماري قد ولى. وفوق ندرة هذا الناتج هو أيضا موزع بشكل جائر جدا؛ ومحط أطماع من كل الجبهات التي تستنزفه باسم تمثيل سياسي بئيس.. المخجل في المشاهد التي شكلت أطول برفورمانس معاصر على المنصات الافتراضية هو التعليم السيئ الذي بدا عليه المغاربة مقارنة باليمنيين والأفارقة.. وهذا ذنب يتحمله الساسة. قد نتفهم فشل الحكومات في توفير عيش كريم لكل مواطنيها بسبب ندرة الموارد أو بحجة وجود تماسيح وعفاريت؛ ولكن ما لن يتقبله أحد هو الفشل في توفير تعليم جيد للناس؛ لأن تجهيل الناشئة هو أكبر جريمة في حق الإنسانية في عصر رأسماله هو الذكاء واستثماره الحقيقي هو التعليم. كل من تعاقبوا على تسيير الشأن العام ببلادنا مذنبون ومتورطون في هذه الجريمة النكراء؛ ولو في حضرة تماسيح وأشباح يتحكمون بالريموت كونترول في كل القرارات؛ مذنبون ولا تجوز لهم أي شفاعة أو أعذار..لأنهم اكتفوا بخدمة مصالحهم الخاصة على حساب تجهيل الآخرين، فنزعوا بذلك عن الجهل صفة العار وبوؤوه مكانة السبيل الوحيد للسعادة في هذا البلد. 3- صادفت فنانة بلغارية في إحدى إقاماتي الفنية بسويسرا..لم يكن معها أكثر من 150 يورو مصاريف جيب طيلة مدة إقامتها لشهر كامل بجنيف: أغلى العواصم؛ كانت هذه الإقامة توفر للفنانين المدعوين "تغذية كاملة وإقامة ومواد عمل وإعلام" بواحد من أجمل القصور ضواحي جنيف؛ فيما يتكفل كل فنان تستضيفه بمصاريف التنقل والجيب. فكرنا في القيام بزيارة للعاصمة ففوجئت بها تحضر معها من مطبخ الإقامة زجاجة ماء وحبة طماطم وقطعة جبن تجنبا لمصاريف المقهى الباهظة..رغم ذلك لم تفكر في مكوث غير شرعي في سويسرا بعد انتهاء إقامتها؛ بل عادت إلى بلدها رغم ظروفها المادية القاسية جدا التي ظلت تحكي عنها طيلة الوقت؛ راتبها هي وزوجها كأساتذين جامعيين لم يكن يتجاوز 800 يورو، تكفي بالكاد لحياة جد متقشفة؛ ولكن هذا لم يكن يمنعها من الافتخار بأنها من بلد عظيم أنجبت مدارسه أكبر فنان معاصر هو خريستو وأشهر لسانية هي جوليا كريستيفا..بلد رغم تواضع موارده يستقر معدل القراءة والكتابة لديه في 98 في المائة من السكان، ويعتبر مواطنوه من أذكى شعوب العالم. أنطونييتا نيكولوفا، وهذا اسم هذه الفنانة، قدمت قراءات بصرية مذهلة من شعر الهايكو سلبت إعجاب السويسريين الذين صفقوا لها كثيرا..وعادت مرفوعة الرأس رغم الظروف المادية المجحفة؛ مسجلة حضورا أقوى بكثير من الفنانين الأمريكان والألمان واليابانيين.. لذلك تحظى هي وشعبها باحترام العالم.. ليس بسبب الغنى وليس لامتلاكهم أسلحة الدمار الشامل؛ ولكن لأنهم بفضل العلم يسهمون في بناء القيم الكونية وينخرطون في تكامل مع الحضارة الإنسانية.. الرسالة واضحة.. لو حصل هؤلاء الحالمون بالهجرة على تعليم جيد لتغير الوضع تماما ولتفادينا هذا المشهد الحاط من الكرامة. سيدعي البعض أنهم عاطلون عن العمل، هذا صحيح ولكن ما هو أكثر حقيقة من ذلك هو أن معظمهم في ظل القيم السائدة لم تعد لديهم رغبة في الكد والبناء بعدما تم تبخيس قيمة التعليم ببلادنا.. معظمهم يعاينون كل يوم أناسا يراكمون الثروات دون عناء ودون مؤهلات تذكر..ممثلون ومنتخبون يسيرون مجالس ويتزعمون فرقا برلمانية وهم غير قادرين على فك الخط؛ ومقاولون رأسمالهم الوحيد هو الجهل الذي سهل عليهم مأمورية إعدام الضمير، وفنانون ومنشطون لا علاقة لهم بالإبداع لا من قريب ولا من بعيد ويحققون في ليلة ما يربحه طبيب في عام..؛ ناهيك عن مسؤولين فاسدين يقف القضاء عاجزا عن ملاحقتهم؛ ما يجعلهم مثالا يحتذي لمن يخلفهم..فيما يعاني الدكاترة والأطباء والمهندسون وأساتذة وموظفون من أوضاع تسوء كل يوم؛ ويفرض على الأساتذة تعاقد مجحف بأجر زهيد وكأنهم يعملون في نظام السخرة..الوظيفة العمومية بدورها لم تنجح سوى في قتل روح الإبداع لدى العاملين فيها؛ في ظل مؤسسات عمومية وإدارات مركزية وجهوية يقودها في الغالب ذوو الكفاءات المحدودة الذين نذروا أنفسهم لمحاربة أصحاب الشواهد العليا.. طبعا لأن أصحاب الجهل عندما يتحكمون تكون لديهم حماسة أكبر لتعميم الجهل والدفاع عنه، كما قال فرانك كلارك.. هل هالنا المستوى الثقافي المنحط لناشئتنا ممن شاهدناهم على "يوتيوب"، كاشفين عن إصرار غير مفهوم على العبور ولو ضحوا بأرواحهم؟.. اعلم عزيزي القارئ أن هؤلاء هم من يصطدم بهم نساء ورجال التعليم يوميا في مدارسنا العمومية؟.. خصوصا في أسلاك الثانوي حيث تكون السياسات الفاشلة قد مسختهم بالكامل وحولتهم إلى "زومبي" لا يتقن سوى لغة العنف؛ ولا يحلم بشيء سوى الاغتناء السريع في بلاد أخرى يتصورها بخياله الساذج تقدر الناس ولو كانوا منزوعين من أي مواهب.. كانت خيبة معظم العائدين كبيرة جدا وهم يتحدثون عن رصاص مطاطي، وعن قنابل مسيلة للدموع.. عن طفل قطعت رجله وبقي مرميا هناك دون مساعدة من أي كان؛ وعن امراة ضمت رضيعها إلى صدرها قبل أن تغوص في المياه دون أن يظهر لها أثر؛ فيما روى آخرون عن ذل ليلة اقتاتوا فيها من القمامة وناموا متشردين في العراء.. 4- قال ميلان كونديرا: لو أن المرء ليس مسؤولا إلا عن الأمور التي يعيها لكانت الحماقات مبرأة سلفا عن كل إثم. لكن الإنسان ملزم بالمعرفة.. الإنسان مسؤول عن جهله. الجهل خطيئة. بشيوع الجهل الذي ولد من رحم سياساتنا العمومية لم يعد بوسعنا الحديث الآن عن أي تنمية. لقد حكمنا على أنفسنا بالتخلف لعقدين قادمين لن يكون في وسعنا خلالهما أن ننتج لا العلم ولا الفن ولا أن نسهم في بناء صرح الإنسانية.. عشرون سنة قادمة سنصرف فيها كل جهودنا لمحاربة الأصولية والتطرف التي تتدفأ بنار الجهل.. سبق ل مارتن هايدجر أن لاحظ تلك الصلات الوثيقة بين الجهل الذي عاشته ألمانيا في بدايات القرن المنصرم جراء تعليم فاشل حصر دور الجامعات في توزيع شهادات فارغة من محتواها وبين نشوء النازية والنزعات القومية المدمرة.. كلما قلت المعرفة ازداد الغرور والعصاب والثقة الخادعة في الذات.. عندها يمسخ الناس وحوشا وتختفي الحقائق عنهم وسط الضجيج.. فيسقطون خارج الزمن.. قد يصيرون مطواعين في أيدي ساساتهم ولكنهم بالتأكيد سيشكلون عائقا كبيرا أمام أي تنمية تنمية.. انظروا واستوعبوا الدرس: بدت حدودنا في "يوتيوب" رغم الحدائق الغناء والأزقة المرصفة والبنايات الأنيقة والطبيعة الجميلة وكأنها خارج الزمن؟..