بعد ما حدث ليلة عاشوراء من أحداث عنف وشغب، وبعد تلك المشاهد التي جسّدت طقوس الجهل على أرض الواقع، لا بدّ وأن نتوقّف ولو للحظة، لأنّ ما حدث من عنف بدعوى الاحتفال بذكرى عاشوراء، يُسائلنا جميعاً، ويُحتّم علينا إعادة قراءة ما يجري قراءة صحيحة . نحن هنا لسنا بصدد مخاطبة أولئك الّذين ارتكبوا أعمال العنف ضدّ قوات الأمن، ولن نُخاطب أمثالهم من الّذين يدعون إلى الفوضى ويستغلون مثل هذه المناسبات من أجل الكشف عن أمراضهم النّفسية، فهؤلاء لا يقرأون، ولا يتّعظون، وكلامنا إلى هؤلاء لن يُغيّر من الأمر شيئا، لأنّ هؤلاء أنفسهم ضحيّة سياسات التّجهيل التي تبنّتها الدّولة، ولا شك أنّها تحصد نتائجها الآن.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي نُشاهد فيها أحداث العنف، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي نجد فيها أنفسنا في مواجهة مجتمع صنعناه بأنفسنا، وما عاد لنا من قدرة لمواجهته أو امتصاص غضبه، بل سبقت ذلك أحداث كثيرة، نُفضّل دائماً أن نُحمّل المسؤولية فيها للضّحايا .
ما حدث في اعتقادنا، لا يمكن اختزاله في أحداث العُنف المتفرقة، ولا يمكن تحميل المسؤولية فيه للأسر كما يُحاول البعض ترويجه، لأنّ المسألة أعمق من ذلك بكثير.
المشكل يكمن في سيّاسات التّجهيل التي تبنّتها الحكومات المتعاقبة ،وفي عمليات غسل الأدمغة التي تعرض لها الشّعب، وكذلك في سياسة ضرب التعليم وإعلان الحرب على المدرسة.
فهل يُعقل أن نُحمّل للأسر المغربية وللشعب المغربي مسؤولية ما يحدث لوحده؟ وهل يُعقل أن نتحدّث عمّا يحدث الآن، بعيداً عن أولئك الّذين يحملون على عاتقهم إعداد السيّاسات العمومية الموجهة للمجتمع؟ وهل يحقّ لنا القول أنّ ما حدث لا يعدو أن يكون مجرّد أحداث
متفرقة، لا علاقة لها لا بالدّولة، ولا بالفاعلين، ولا يمكن لهؤلاء أن يتحمّلوا ولو قسطاً يسيرا من هذه المسؤولية .
حتّى لو سلّمنا أنّ ما حدث كان نتيجة طيش قد يحدث في أيّ بلد من البلدان، وحتّى لو صدّقنا أنّ من قاموا بأحداث العنف لا يُعبّرون عن الأغلبية الساحقة من المغاربة، الّتي ترفض مثل هذه الأعمال، ولكن هناك أسئلة يجب أن نطرحها والّتي تحتاج منّا إلى أجوبة صادقة علها تكون النهاية لمآسينا.
هذا المجتمع "المتخلّف" الّذي مارس العنف ليلة عاشوراء، والذي مارسه في أيام عيد الأضحى عندما انخرط في أعمال السّلب والنهب والسرقة، والذي سيمارسه في مناسبات أخرى لا قدر الله. هل هو مجتمع استوردناه من خارج البلد؟ وهل هو مجتمع أتينا به من جزيرة الوقواق مثلاً ؟ وهل هو مجتمع صنع نفسه بنفسه ؟ ثم هل يمكن لمجتمع يعيش بيننا، ويتلقّى تعليما من مدارسنا ويأكل من خيراتنا، أن يكون مختلفاً علينا؟
من شاركوا في أحداث العُنف لا شكّ أنّنا نحن من صنعناهم، ولا شكّ أنّنا نحن من شاركنا في عمليات تجهيلهم وهؤلاء هم أبناء هذا البلد، يمشون في الأسواق ويأكلون الطّعام، ويصوتون في الانتخابات، ويختارون من يُمثّلهم داخل قبة البرلمان، وهؤلاء لا يختلفون علينا فهم يُشبهوننا إلى حدّ كبير .
لا أحد يستطيع الآن أن يقنعنا أن العنف الذي نراه في مجتمعنا من حين لآخر، والّذي يظهر في كل المناسبات، في الانتخابات، في المباريات، وفي الاحتفالات، لا يتغذى على الجهل، ولا أحد يستطيع أن يُقنعنا أنّ أعمال الشغب لا تولد من رحم الفقر، ولا تولد من الكبت الممارس على الشّعب ؟
لا نعتقد أنّ سيّاسات التّجهيل، والتّدجين، والتخدير، ستفرز لنا عكس ما نراه الآن، ولا نعتقد أنّ عقوداً من تفقير الشّعب ستكون نتائجها على عكس ما يحدث الآن .
لقد أخطأوا عندما اعتقدوا أنّ سيّاسة التّجهيل ستجعلهم في مأمن من كل خطر، ولقد أخطأوا عندما ظنّوا أنّ التّجويع سيكون سبباً في التّطويع .
قد يكون التّجهيل فعالاً لبعض الوقت، وقد يكون سبباً لإخضاع الشّعب لبعض الوقت، لكنّه لن يكون حلاّ ناجعاً لكلّ الوقت، والدّليل هو ما نراه الآن من مشاهد تُدمي القلب ، أبطالها كائنات بشرية أصبحت بقدرة قادر عبارة عن كائنات مسخة قادرة على ارتكاب العُنف والشغب وكلّ أنواع الموبقات.
عندما نتبنى سيّاسة تجهيل الشّعب، وعندما نُعلن الحرب على المدرسة العمومية، وعندما نحيد عن طريق الدّيمقراطية، وعندما نحاول صناعة الجهل بأنفسنا، فإنّنا لن نرى سوى مثل هذه
المشاهد، ولن نرى سوى أمثال هؤلاء الذين ستجد الدولة صعوبة في التعامل معهم، وهذا الّذي يحدث الآن مادام أنّ نفس الشيء يتكرر في أماكن ومناسبات عدة داخل البلد .
هناك من يُحاول الآن أن يُصور ما وقع بأنّه بعيد كل البعد عن هذه التناقضات التي يعيشها المجتمع المغربي، وهناك من أبناء جلدتنا من يُصرّ على اعتبار ما حدث، لا علاقة له بصناعة التّخلف، ولا بسياسة التّجهيل المتبعة، مع أن لب المشكل يكمن في هذه التناقضات، التي يفضلون الإبقاء عليها، دون أن يعلموا أن من الجهل ما قتل، وأن منه ما دمّر.
الكل بدأ يتحدث عن الرُّقي وعن ضرورة التحضّر، والجميع يتساءل لماذا نحن هكذا؟ أو على الأقل لماذا نصرّ دائماً على أن نظهر أمام العالم بهذه الصورة البشعة ؟
التحضّر لا يأتي بين عشية وضحاها، والتقدّم لا يتحقّق بالأوهام وبسياسة التّجهيل، ولا حتّى بالخطابات الرنّانة التي تُصورنا على غير حقيقتنا.
نحن بحاجة إلى أن نتصالح مع أنفسنا أولا، ونعترف بأنّنا أنتجنا التّخلف، وساهمنا في سيّاسة التّجهيل على مر عقود من الزمن، وعلى أقل تقدير يجب أن نفهم أنّ ما تصنعه أيدينا، وما قد ننتجه بأنفسنا ، قادر على أن يهلكنا، وقادر على أن يعيدنا إلى سيرتنا الأولى