سبق وأن قلنا في مقال سابق خصّصناه لتداعيات فيروس كورونا على مجتمعاتنا بأنّ حياتنا تغيّرت رأساً على عقب، وأنّ الجائحة منحتنا دروساً في الإنسانية التي افتقدناها، وهذا لا أحد يستطيع إنكاره، ولكن مع ذلك، فإذا كان فيروس كورونا قد كشف عن صحوة الشّعوب فيما يخص العودة إلى الفطرة الإنسانيّة التي فُطروا عليها، فإنّ الفيروس كشف من جهة أخرى عن الأنانية المُفرطة، الّتي أظهرها البعض في عزّ هذه الأزمة. مناسبة هذا الكلام، هو ما حدث من مظاهر كشفت عن وجوه البعض من بني جلدتنا، من الذين سارعوا إلى استغلال الظرفية التي تمر منها البلاد والعالم، من أجل الانتصار لأنانيتهم المقيتة.
هل يستقيم أيّها السادة ونحن نواجه هذا الفيروس الذي أودى بحياة الكثير منا، أن نرى مظاهر الجشع تغزو مجتمعنا منذ أول إعلان عن حالة الطوارئ، وهنا لا نتحدث عن جشع التّجار، لأنّ ما فعله البعض منهم في هذه الظرفية، جريمة بكل المقاييس يستحقون عليها العقاب، وإنّما نتحدث عن فئة المستهلكين، الّذين بادروا في أوّل وهلةٍ إلى التّهافت على شراء السّلع بكمياتٍ مُبالغٍ فيها، في صورةٍ تُظهر تلك الأنانية البشعة التي نضمرها في دواخلنا، والّتي كشف عنها هذا الفيروس.
عندما ترى مُوّاطناً يُخزِّن ما يكفيه من المواد الغذائية والسلع لعام واحد، ولا يترك لإخوانه ما يسدون به رمقهم ليوم واحد، فإنّنا في أزمة.
وعندما ترى مُوّاطناً يتدافع على مواد التّعقيم، فيحمل كلّ ما تبقى منها في السّوق، دون أن يترك شيئاً لمن يأتي بعده، فتأكّد أنّنا لسنا بخير .
بماذا يمكن أن نُفسّر كل هذا الجشع، وكل هذه الدّونية التي وصلنا إليها، وكل هذه الأنانية الّتي أصبحنا ننتعايش معها في عز الأزمات، في الوقت الذي كان يجب علينا أن نكون في مستوى التطلّعات.؟
لم نجد تفسيراً لما حدث وما يحدث في بلداننا بعد اجتياحها من طرف فيروس كورونا، سوى أنّ عمليات التجهيل أعطت أكلها، وهي التي نحصد نتائجها الآن بدون منازع .
صعب جدّاً أن تتحدث عن المدنية، عن التحضر،عن الإنسانية، عن الرحمة، وعن التكافل، وأنت لم تضع على مرّ عقود من الزمن أي أساس لكل هذا.
من الصّعب أن تتحدّث عن بناء الثّقة بين المواطنين أنفسهم في عز الأزمات، ومن نعوّل عليهم قد حطموا كل الصروح التي من المفروض أن تظلّ حاضرة بقوة، خصوصاً مع اشتداد الأزمات.
بل من الصّعب أيضا أن تطلب ممن أفرغتَ قلوبهم وعقولهم من كلّ ما له علاقة بالإنسانية، عبر سيّاسات عمومية تدميريّة، أن يُقدّم المثل الأعلى في التّضامن والتآزر واحترام حالة الطّوارئ، وقواعد الحجر الصّحي، والالتزام بالتّعليمات.
في الوقت الذي كانت فيه الشّعوب تُناضل من أجل الحرّية والديمقراطية، وترفع شعار إسقاط الأنظمة والفساد، كان عليها أن ترفع شعاراً وحيداً شاملًا، وهو إسقاط التّجهيل. وهذا في اعتقادنا كافٍ لاستعادة الرّوح إلى هذه الشّعوب، واستعادة الإنسانية التي افتقدناها، وتحقيق ما نطمح إليه من حرّية، وعدالة، وديمقراطية، فكلّ شيء يتوقف على إسقاط الجهل، لأنّ الجهل يقتل أصحابه بسرعة لا تُتصوّر.
مشكلة الشّعوب في أوطاننا ليست في مظاهر الجشع، ولا في انعدام الإنسانية، ولا حتّى في غيّاب الوعي،مشكلتنا مع عمليات التّجهيل، الّتي كانت سبباً وراء كلّ هذه التّناقضات.
وقد قالها مالك بن نبي منذ زمنٍ بعيد، عندما سُئل عن القضيّة الأولى للمسلمين، فقال: قضيّتنا الأولى "الجهل"، ولقد صدق الرجل في قوله هذا .
ما نعيشه اليوم من انتصار لمظاهر الجشع، والانتهازية، وحب الذات، والرّكوب على المآسي، هو نتيجة لسياسات التّجهيل التي انخرطنا فيها جميعا، ونتيجة لعقود من اللامبالاة والانتصار للتسلط، الذي أبينا إلاّ أن يبقى حيّا فينا .
نحن شعوب مازالت أمامنا سنوات ضوئية، ونحن في طريقنا إلى بناء أوطان متحضرة، يكون هدفها الأسمى الإنسان، ولا شيء غيره .