وكأنه مضى زمن الطمأنينة النفسية مرافقا الأجيال السابقة، الذين تمتعوا بطمأنينة النفوس، فكانت شخصياتهم كالجبل الصلب لا تؤثر فيها الرياح العاتية . ويُذَكِّرُ هذا المعنى بالذات ما كان يقوله المرحوم ياسر عرفات عندما كانت إسرائيل تحاول إضعافه . كان يردد دائما :" يا جبل ما يهزك ريح" . ولعل ياسر عرفات استلهم تعبيره هذا من القصيدة الشهيرة للشاعر ميخائيل نعيمة " الطمأنينة" والتي يقول في مطلعها: سقف بيتي حديد *** ركن بيتي حجر فاعصفي يا رياح *** وانتحب يا شجر أما اليوم فكل النفوس البشرية مخترقة بلا استثناء من الكبار إلى الأطفال ولا أحدا يستطيع القول بيتي حديد، ركن بيتي حجر. ولم نعد نر تلك الكاريزما وتلك القوة النفسية عند الرجال والنساء . الكل رفع الراية البيضاء أمام التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الكونية ، ولم يبق لخصوصيات الأفراد والدول مساحة تمارس فيها حريتها بكل ثقة. ليس هناك حاكم واحد يمارس اختصاصه وسلطته وكما كان يمارسها حكام الأمس وهم يعتبرون أنفسهم " الكل في الكل" .فحاكم اليوم محاصر بمنظمات حقوق الإنسان، وجمعيات المجتمع المدني ، والأقليات ، والطوائف الدينية ، والقانون الدولي ، ومتابع من طرف الدول المانحة للمساعدات ، والمصادقة على تحقق الديمقراطية في بلده ، أو المطالبة بتحقيقيها . ولنأخذ أمثلة من واقع اليوم ، فالحكام الجدد في مصر أو تونس أو المغرب أو ليبيا أو اليمن هل مطمئنون ويمارسون مهمتهم وهم مرتاحون ؟ فكل الدلائل تبين أنهم يعانون من تشويش غير مسبوق ومن معارضة حادة لم يعرفها من سبقهم .لقد مضت عدة شهور على ثورات الربيع العربي وستبقى نفسية المواطن والحاكم مهزوزة وغير مطمئنة مادام الشارع يغلي بالمعارضين وبالرافضين لبرامج الأنظمة والحكومات الجديدة . لقد أحدثت الثورات خلخلة عميقة في الناس وفي الذات الوطنية . وبدا من تداعياتها دخول الإنسان في الدول الإسلامية على الخصوص في تجربة " الغربة" من جديد . حيث أصبح الوطن غريبا ولن تبق له الحصانة ولا القدرة على الدفاع عن خصوصياته الثقافية أمام زحف الثقافة العالمية عبر الانترنيت وعبر القوانين الكونية المفروضة من فوق. وأصبح المواطن غريبا بين مواطنيه بسبب رجوع العنصرية العقدية والعرقية . لقد تعرضت شخصية الإنسان لتغيرات عميقة بسبب ما عرفه العالم من تحولات ، ولم تبق للشخصية تلك القدرة على المقاومة التي عبر عنها ميخائيل نعيمة في قوله" سقف بيتي حجر" وإنما فيما قالته الشاعرة نور بنت محمد: سقف بيتي ثقوب *** ركن بيتي حفر فاهدئي يا رياح *** لا تزيدي الضرر. إن طمأنينة الإنسان المسلم كشعور ، اهتزت وانسحبت من نفسه بسبب ما تعرض له ومازال يتعرض له من ظلم . لقد أصبح الظلم ظلاما حالكا صبغ الأيام والسنين بصبغة اليأس والخوف والاضطراب والحرمان والبؤس ، سواء أكان وراء الظلم من يدعون دفاعهم عن الإسلام (يقولون مالا يفعلون) أو من يدعون الديمقراطية وهم يسرقون . لا الشريعة أرجعت للنفوس الحائرة طمأنينتها برفضها ، ولا القوانين الوضعية هدأت من تخوفات وروع وفزع الناس باحترامها. لقد اغْتُصِبَتْ طمأنينة الناس بسبب شيوع فساد الاغتصاب : فاغتصب الأطفال وأعمارهم بين الخمس سنوات وعشر سنوات ، واغتصب الكلمة فا صبح صاحب الحق أبكما بقوة القانون ،ضده ، واغتصبت السلطة فراحت لمن يقوى على قتل الناس من أجل الاحتفاظ بها، واغتصبت أرزاق مالكيها من طرف المنحرفين والمتحايلين الذين يتقنون فن التزوير، واغتصب الحب بزرع الكراهية والمنافسة بين الأجناس. لقد تأسست الدولة بميثاق مجتمعي من أجل الحرص على طمأنينة الناس ، وكي يعيشوا في سلام وهم مطمئنون على أرواحهم، ومتاعهم وأبنائهم ومساكنهم ، وعلى مستقبلهم ومستقبل أبنائهم . والسؤال أين نحن من هذا كله؟ ففي فرنسا ، وبالتحديد في مدينة أرغنتويل ، تعرضت سيدة محتجبة لاعتداء شنيع من طرف شخصين مجهولين بينما كانت خارجة من مختبر طبي من أجل الحصول على نتائج الفحص. ففجاءها الشخصان وأزالا عنها الحجاب ومزقاه وقطعا من شعرها وضرباها على بطنها حينما قالت لهما أنها حامل. آخر الأخبار (الأبسرفتور) تقول بأن السيدة فقدت حملها وهي في حالة مزرية . والشرطة لم تأخذ ادعاء السيدة على محمل الجد نظرا لعدم توفر أثار الضرب عليها كما قالت الشرطة. السؤال كيف سيحس الإنسان بالطمأنينة في عالم مضطرب ومخترق من كل أشكال الانحرافات إلى أن أصبحت فيه المبادئ حمقا والقواعد استثناء .وباتت الجمعيات التي كانت إلى عهد قريب تناصر الحق تناصر الباطل . لقد اختفت الجمعيات النسائية " فيمن" من الساحات ومن الإعلام عندما تعلق الأمر بإنسانة محتجبة . وكذلك يفعلون عندما يتعلق الأمر باغتصاب طفلة أو طفل من أسرة فقيرة، وكذلك يفعلون عندما يغتصبون منصبا هو من حق ضعيف مستحق له، وكذلك عندما يغتصب حاكم كرامة شعبه . وقتها تختفي المساواة والديمقراطية وحقوق الإنسان من برامجهم . إن انعدام الطمأنينة في أي قطر من الأقطار له تداعيات خطيرة على نفوس الناس ، وبالتالي على الصحة . فلا يمكن تصور مجتمع متقدم مواطنوه مرضى، تخترق نفوسهم وعقولهم كل أشكال الأمراض الباطنية والعقلية والنفسية بسبب عدم الاستقرار، وبسبب الضغوط المتتالية التي يتعرضون لها في أي مكان، والناتجة عن خلل عميق في الأعراف والقواعد والقوانين التي تنظم المعاملات بين الناس. فمن السهل جمع الناس حول مجموعة من الأهداف في المدن ، أو داخل دولة ولكن من الصعب التحكم في توجهاتهم المختلفة في غياب برامج تربوية مُوَحَّدة ومُوحِّدة، وقوانين تنظيمية تنظمهم وتحد من تدخلاتهم الغير بريئة . وليس هناك دواء أي ناجع لاسترجاع الطمأنينة إلى النفوس غير الرجوع إلى البساطة والابتعاد عن التعقيد وبالخوف من الخالق . ولن أذهب مع طرح العلمانيين ، والذين يرون بأن إصلاح أحوال الناس رهين بإبعاد الدين عن الحياة . فالدين مُوجِّه للحياة وبدونه تجد العشوائية ضالتها . إذ لو كانت العلمانية حلا للبشرية لاستقام أمر الناس في الدول العلمانية، وإن غاب الربيع الأوروبي عن الأوربيين فبسبب اقتصادهم القوي . أما في الدول الإسلامية فلن ترجع الطمأنينة لتسكن النفوس إلا حينما يعم الإحسان ويصبح حقيقة وسلوكا بشريا.