كنت في حوار مع أحد العلماء حول موضوع الفتوى، فأخبرني بأن المفتي يجب أن تتوفر فيه الدراية بالحديث، والفقه، والأصول. وتيقنت أن الفتوى موضوع حساس يجب أن تراعى فيه شروط قلما تتوفر في من يتصدر لها. وقد ميز بعض العلماء بين الفتوى والرأي. وهي على كل حال لا تبلغ درجة الإلزام كالحكم القضائي. لأنها تنطلق من تقديرات وترجيحات. وقد مأسست بعض الدول الفتوى واعتبرت ما صدر عن المؤسسة ملزما للأمة، تجنبا "للفتنة" ولكن السؤال الذي يطرح: كيف تختار هذه المؤسسة وعلى أي أساس؟ ثم كيف نجنبها التوليفات السياسية التي تفرض بالشوكة؟ وكيفما كانت الأحوال فالفتوى مسؤولية يجب أن يستشعر من كلف بها بثقلها والحمد لله أن المجتهد مأجور على كل حال إذا خلصت النيات وكان المبتغى هو وجه الله عز وجل. وبناء على هذا التقديم ، يمكن اعتبار فهم مقاصد الشريعة الإسلامية محطة أساسية من أجل كسب تراكمات معرفية تساعد على الفتوى لأنها تمكن من فهم رسالة الله وخطابه، وتنير طريق استنباط الأحكام التي تؤهل للتنزيل السليم لشرع الله على الواقع المعيش. من خلال التوقف على روح الشريعة، والعلل، والمقاصد، والحكم. مفاتيح معرفية: إن أحكام الشريعة تهدف إلى الصلاح والإصلاح، وتستهدف الفرد والجماعة. أما الخطاب فيدور على قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد أو تقليلها. أما معرفة المقاصد فهي تعلم الإنسان جدلية الإقدام والإحجام، والتكلم والسكوت، والتقديم والتأخير على المستوى السلوكي بناء على معرفة وإتقان سبب النزول. انطلاقا من مراعاة إرادة الله عز وجل الداعية إلى الاستقامة والاعتدال. لأن التغيير المقصود من هذا العمل هو التغيير في الاتجاه الايجابي.والذي يبقى نسبيا مهما بلغ الاجتهاد البشري دلالات المقاصد: للمقاصد دلالات متعددة فهي حكم ومعان وغايات . كما تطلق على الأسرار المتوخاة من الأوامر والنواهي والإباحات.من أجل تحقيق المصلحة. والمصلحة ضد المفسدة.وتنصب غالبا على الأفعال. لذلك قال الشافعي بأن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل. ومن تم فالشريعة كلها مصالح كما أخبر بذلك العز بن عبد السلام. أقسام مقاصد الشريعة: يمكن تقسيم مقاصد الشريعة إلى مقاصد للشارع ومقاصد للمكلف، كما أكد على ذلك الشاطبي رحمه الله.وفي هذا الإطار نستحضر القصد الابتدائي، والإفهامي، والتكليفي، والامتثالي. فالسؤال الابتدائي: لماذا الشريعة؟ الجواب بسيط لكنه عميق: لمصالح العباد في المعاش والمعاد. بناء على الضروريات والحاجيات والتحسينات. فالضروريات تنصب على الدين والنفس والعقل والنسل والمال.فالدين له دور أساسي في حفظ النفس والعقل والنسل والمال. وهذا الدين لايفهم إلا بالنقل والعقل. والقناعة بحفظ هذه الضروريات مرتبط بتوظيف القرآن والسلطان. والهدف من هذا كله هو تحقيق الإيجاد، والمحافظة على الابتعاد. وهذا باب كبير للمجاهدة والمدافعة. أما الحاجيات فتهدف إلى عدم اختلال الحياة. لكن الاستغناء عنها يؤدي إلى الحرج والمشقة والضيق. وكما تؤكد القاعدة المشهورة: المشقة تجلب التيسير. أما التكميلات فتهتم بمحاسن العادات، ومكارم الأخلاق، كالطهارة والزينة. نخلص مما سبق إلى مايلي: - الضروريات مقاصد أصلية، والحاجيات والتحسينات تبعية ومكملة. والمعادلة أن الضروري أصل للحاجي والتحسيني. واختلال الضروري اختلال الباقي. ولا يلزم اختلال التحسيني والحاجي اختلال الضروري اللهم إذا كان الاختلال مطلقا. فالصلاة أصل والطهارة والقبلة مكملات. فاختلال الصلاة يؤدي تبعا اختلال الطهارة والقبلة. أما الجزء الثاني فيتعلق بمقاصد المكلف. والتي تتطلب من المعني بالخطاب : النية والإرادة والوجهة من فعل أو ترك. وبالتالي يربط المقصد بالعمل. إلا في حالة الغفلة أو النوم أو الجنون. ومن أجل التمييز بين العبادة والعادة لآبد من توفر الإرادة والنية. وعلى مستوى العبادة ضرورة التمييز بين الواجب، والمندوب والمكروه والمباح والمحرم. وأكدت الاجتهادات بأن هذه الأقسام لا تخرج على نطاق الامتثال حيث كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقضها . وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل. والمحور الثاني بعد الامتثال الحظ، وهو المباح مادام في إطار الشرع. الثالث هو المخالفة للشارع والشرع. وذلك من خلال ترك الواجبات وفعل المحرمات أو من صلى رياء.. وأخيرا الموافقة لقصد الشارع لكن قد يفسد هذا بالفعل غير المشروع. خلاصات: - إن المصالح ما يغلب نفعه، والمفاسد ما يغلب ضرره. والشريعة رحمة، وعدل، وحكمة..غايتها التعبد. مع مراعاة الفطرة البشرية. من خلال وحدة المرجعية ، والوحدة ونبذ العنف. - نتوخى من فقه المقاصد المعرفة والفهم وحسن الترجيح، وتوسيع القياس، والاستيعاب. وهذا ما اصطلح عليه بالتطمين والتحصين والتمكين. - ضرورة التمييز بين العلة والسبب، فالأولى تضبط فيها المناسبة، والثانية غير ذلك. - من الحاجيات رخص السفر والمرض، والتمتع بالطيبات . أما التحسينات فنذكر الطهارات والصدقات وآداب الأكل والشرب. وكما يقول الشاطبي" المقاصد أرواح الأعمال". وجلب المصلحة أولى من درء المفسدة عكس ما هو سائد كما ذهب إلى ذلك الدكتور أحمد الريسوني. وإذا كان كل مولود يولد على الفطرة، فإن المقاصد تحرس وتقوم هذه الفطرة. والعلة في ذلك أن الحضارة والمدنية والإنتاج العقلي، والمعرفة ، والتفكير السليم وما يترتب عنه من إبداع علمي..كل هذا من الفطرة..وهذا ما أكد عليه ابن عاشور رحمه الله. ماأحوجنا إلى فقه الدراسات المقاصدية حتى نجنب أنفسنا شهوات السلوك المنحرف فرديا وجماعيا الناتج عن شبهات معرفية غير علمية.