في سفح جبل كوروكو، وعلى مرمى حجر من مدينة مليلية، رأى النور حسن أوعاس عام 1950. حسن أوعاس يوم 12 أبريل 2021 بمدينة الناظور. ووفاء للصداقة المتينة التي تربطنا منذ حوالي 45 سنة، أحاول اليوم أن أقاوم النسيان الذي سرعان ما يدبّ إلينا، بالمساهمة في بناء ذاكرة ظاهرها شخصي، لكنها في العمق تصب في ذاكرتنا الجماعية التي ينبغي أن نعتز بها وننحتها على صخر الكتابة، مقاومةً للنسيان. حسن أوعاس ينتمي إلى جيل ما بعد الاستقلال، جيلي أنا وثلة من الأصدقاء الذين حاولنا، كسائر أبناء الشعب، شق الطريق بعناد وثبات، كل واحد حسب قدراته، وحسب إصراره، وحسب قناعاته. كثير منا استطاع في نهاية المطاف الوصول إلى بر الأمان، وبر الأمان هو الحصول على شهادة عليا تنتزعنا من مخالب الفقر وتمكننا من قهر الزمن. غير أن لحسن أوعاس قصة مختلفة. هو أصلاً مختلف: في مرحلة طفولته وشبابه، كان خجولاً جداً، وهادئاً جداً، وطيباً جداً. خلافاً لغالبيتنا الذين كنا مشاغبين في أدق التفاصيل، في البيت كما في الشارع، كما في المدرسة. وبما أن مدرسة الحياة يمكن أن تدفع الإنسان إلى تعويض ما يمكن أن يكون نقصاً فيجعل منه نقطة مضيئة، فإن خجل حسن أوعاس كان منتجاً خلاّقاً: في سن 16، ومباشرة من السنة الرابعة ثانوي آنذاك، تقدم لاجتياز امتحانين: امتحان الانتقال إلى الفصل الخامس (أولى بكالوريا اليوم)، وامتحان شهادة البكالوريا حيث تقدم إليه كطالب حر. نجح في الإثنين معاً، وطبعاً، أحرق المراحل، ووجد نفسه في أكتوبر 1966 طالباً في السنة الأولى بالمعهد العالي للهندسة الصناعية (تخصص المواصلات اللاسلكية) بجامعة بوليتيكنيكا بمدريد، وهو ابن السادسة عشر. وراء إصرار هذا المراهق الصغير رأسمال بشري رائع مكّنه من تحدي قهر الزمن. فهو، بحكم يتمه من أبيه وهو لا يزال صغيراً، لم يكن من الممكن له أن يغادر سفح جبل كوروكو ليتابع دراسته الثانوية بتطوان لولا الدعم اللامشروط الذي قدمته له أمه. فبينما كان المراهق الخجول ينهم بشراهة معارفه العلمية بمدينة تطوان، كانت أمه تذهب كل صباح وهي تحمل على ظهرها سلة مليئة بالبيض "البلدي" لتبيعه على الرصيف المقابل للسوق المركزي بمليلية، حيث إن نصف ما تحققه من أرباح تخصصه لإعالة أسرتها المكونة من ثلاثة بنات وهي، والنصف الآخر ترسله لابنها إلى تطوان، وإلى مدريد لاحقاً. مرت خمس سنوات بسرعة في مدريد. وكالعادة، فاجأ الطالب الصغير ذي الأصول الريفية أساتذته وكل رفاقه في الجامعة. كان طالباً متميزاً جداً، الشيء الذي جعل إحدى كبريات شركات تكنولوجيا التواصل تتعاقد معه وتخصص له منحة دراسية شريطة أن يشتغل معها بعد تخرجه. بعد تخرجه من الجامعة، بدأ حسن أوعاس يشتغل كمهندس مواصلات لاسلكية بالشركة التي تعاقدت معه، وفي غضون سنوات قليلة، استطاع أن يصبح من ضمن الفريق القيادي للشركة، بل، ونظراً لكونه مغربياً يعرف العربية (إضافة إلى الإسبانية والإنجليزية)، استطاع أن يضمن حضوراً متميزاً لشركته في كل من السعودية وليبيا والسودان والمغرب، هذا إضافة إلى حلوله التقنية المتميزة التي مكنته من نيل ثقة الشركة أكثر فأكثر. عندما التقيته ذات مرة في ثمانينيات القرن الماضي، بدأ يحدثني عن ابتكاراته التقنية التي استطاعت بفضلها أن تحظى شركته بأسواق الشرق الأوسط، إذ قال لي: في مجال تكنولوجيا المواصلات اللاسلكية، إذا سمحت لي بترك التواضع جانباً، فأنا "لا يقدر عليّ أحد" ! وبالرغم من النجاح الباهر الذي حققه في إدارة مشاريع شركته في الشرق الأوسط، تقنياً ومادياً، وبالرغم من ضيق وقته، كان يقوم بالموازاة بإعداد دكتوراه في الفيزياء التي حصل عليها بميزة cum laude، وهي أعلى ميزة علمية تمنحها الجامعة، وولوجه جامعة بوليتكينيكا كأستاذ مشارك عندما تسمح له التزاماته المهنية الأخرى. وكأي مغربي شغوف بوطنه ومحب له حتى النخاع، بمجرد حصوله على الدكتوراه في الفيزياء بدأ يفكر في الرجوع إلى المغرب والالتحاق بالجامعة، تاركاً وراءه كل الإغراءات المادية. بالفعل، عاد إلى المغرب وقدم طلباً للالتحاق بجامعة محمد الخامس بالرباط، لكن كم كانت صدمته كبيرة عندما تم قبوله كأستاذ مساعد وليس كبروفيسور، الشيء الذي اعتبره بمثابة إهانة وجعله يعود إلى مدريد والشروع في حياة جديدة ستقلب مساره المهني والشخصي إلى الأبد. عاد من جديد إلى الشركة التي احتضنته منذ البداية واستطاع أن يحتل صدارة قيادتها ضمن قياديين ثلاثة. وخلال مدة غير يسيرة، استطاع، بفضل ابتكار حلوله التقنية المتميزة، أن يجعل الشركة تحظى بأسواق الشرق الأوسط وإفريقيا من جديد، غير أن حدة التنافس الدولي واندماج الشركة التي كان يشتغل فيها في شركة أخرى، جعلته يفكر في إنشاء شركة خاصة به حيث تمكن، بفضل كفاءاته المتميزة وثباته وإصراره والاعتكاف على العمل ليل نهار من أن يصبح مستثمراً ناجحاً ويحوّل نقمة اليتم والفقر إلى ثروة كبيرة جمعها لنفسه، وهنا أكاد أجزم بأنه الثري الوحيد الذي أعرفه قد بنى ثروته بالمعرفة والكفاءة التقنية والعمل اليومي الدؤوب وبعرق جبينه، دون الاضطرار إلى سلوك الطرق الملتوية لغالبية رجال الأعمال. كل من يعرفه يجتمع على شيء واحد: حسن أوعاس شخصية عالمة وثرية، لكنه في نفس الوقت شخص متواضع جداً ومحب جداً لبلده وأصدقائه. علاقتي به لا تعدو أن تكون علاقة صداقة، خصوصاً وأن السبل تفرقت بنا، وأن همومنا كانت مختلفة للغاية. علاقتنا كانت مبنية على الاحترام التام المتبادل، بدون مقابل ولا تبادل مصالح، وكلما التقينا كنا نتحدث عن أمور بدأنا نناقشها ونحن في المرحلة الثانوية: مصير ومسار لغة أمهاتنا وثقافتنا الأصلية الأمازيغية، حيث كانت له في البداية مساهمات. قد نختلف في كثير من الأمور، قد يغير الزمن مساراتنا، لكن الصداقة التي ننسجها ونحن مراهقين وشباباً تبقى راسخة وتبقى دائماً فوق كل اعتبار. وبالنسبة لي، يبقى حسن أوعاس دائماً نموذجا حياً للقدرة الهائلة التي تكمن فينا، نحن أطفال الهامش، في تحويل فقرنا المادي إلى رأسمال معرفي متميز، وفي بعض الحالات، إلى ثروة مادية كما هو الحال بالنسبة لصديقي. حسن أوعاس كان مهندساً خبيراً دولياً في تكنولوجيا التواصل اللاسلكي، وكان عالماً فيزيائياً متميزاً، وهو فوق كل هذا وذاك، كان من كفاءات "مغاربة العالم" النادرة، لكن لا أحد في بلده قد التفت إليه. وبالرغم من استقراره الطويل في مدريد، أبت الصدف إلا أن يحقق أمنية غالية على كل مغربي، وكل ريفي بالخصوص، ألا وهي أن يدفن في بلدته، في سفح جبل كوروكو، رغم أن هذه الأمنية تكاد تكون من المستحيل في زمن الجائحة التي أصبحنا نعيشها اليوم.