على غير العادة لم أرغب هذه المرة أن أضحك في وجه أستاذ الفلسفة وهو يحاول بمشقة تثير الكثير من الشفقة أن يشرح لنا نحن التلاميذ أن الإنسان مخير في أفعاله وليس مجبرا على ذلك، لا أدري سبب هذه العاطفة التي غمرت نفسي فجأة وأنا أشاهده في ورطة حقيقية يحاول جاهدا إقناع من في الفصل بأن الإنسان هو سيد نفسه والمسؤول الأول عن اختياراته، كدت أن أطلق قهقهة في وجهه كما اعتدت أن أفعل دائما قبل أن أتراجع عن ذلك، فمن غير اللائق السخرية من رجل يستحق بالأحرى الشفقة والرثاء. لم أرغب أيضا مناقشته في هذا الموضوع: "هل الإنسان مجبر أم مخير؟"، لأن الأمر لا يستحق ذلك، كما أنني أكره أن أخوض معركة أعلم أني منتصر فيها بنسبة مائة في المائة. الكبرياء أن تترفع عن المعارك السهلة والبسيطة. كنت أتصور أنني سأفوز عليه من الجولة الأولى وبالضربة القاضية، سمعته يحدث الطلبة ببعض الحماس الكاذب: "منحنا الله العقل لكي نختار الطريق الصحيح حتى نواجه معركة الحياة". معركة الحياة!؟ وهل مُنحتُ أصلا ترف الاختيار لكي أخوض هذه المعركة؟ لا أتذكر أنني خُيرت أبدا بل قُذفت قذفا وسط لهيب معركة لم أختر المشاركة فيها. لا أعتقد أنني كنت سأقبل أن أتنازل بسذاجة عن عالم العدم الجميل الذي كنت أنتمي إليه إلى حياة منهكة وظالمة وبئيسة، كنت سأرفض بقوة لو خُيرت في ذلك، خصوصا لو علمت أني سأولد مشلولا من يدي اليمنى. فقدت كل احترام للحياة، كيف تقبل على نفسها أن تحارب رضيعا دخل الحلبة محروما من اليد التي يبطش بها؟ كنت كالجندي المعطوب الذي يُدفع به غصبا لكي يخوض معركة خاسرة. لم يكن قدومي للحياة هو الشيء الوحيد الذي لم يتم باستشارتي، فأنا أيضا لم أختر أبي، أمي أو وطني ولا حتى ديني. في الحقيقة أني أُجبرت أن أحيا كما هو مخطط لي وليس كما يقول هذا المعتوه أستاذ الفلسفة: "الإنسان كائن حر"، جل الحروب التي عرفها العالم ودمرته كانت بسبب الدين أو الوطن اللذين لم أختر أياّ منهما. ألا يكفي أننا قبلنا بعيون مغمضة وطنا ودينا ونحن مازلنا في بطون أمهاتنا لا نعي عواقب الأمور؟ وها نحن نضحي بأغلى ما نملك، "الحق في الحياة"، من أجل أشياء لم يكن لنا يد في اختيارها، قمة السخرية أليس كذلك؟. "المرء على دين أبيه"، لو استوعب أستاذ الفلسفة هذا المثل جيدا لعرف أن الكثير من تفاصيل مستقبلنا هي من صنع أبائنا وعادة ما يباركها القدر حتى قبل أن نأتي إلى الدنيا. علمت بالصدفة من العجوز ليو بواب المدرسة أن والد أستاذ الفلسفة هو أول من تولى إدارة المدرسة في زمن الستينيات من القرن الماضي، وكان يصطحب معه ابنه الصغير، فلا غرابة إذن أن يصير ابن المدير أستاذا، كما أن الولد النحيف توماس المهووس بجمع الطوابع البريدية، الذي يأتي إلى المدرسة مزهوا بمحفظته البنية المتدلية جهة جانبه الأيمن كما يفعل عادة والده ساعي البريد، أعتقد أن القدر يهيئه من الآن لوظيفة في وزارة البريد، بينما البنت الثخينة إليزابيت، التي لم تكن تتوقف طوال فترة الدرس عن هوايتها المحببة في صنع بالونات من العلكة، تفجرها بكثير من الغنج بين شفتيها الغليظتين، هذه الغجرية المليحة أجزم أنها كانت قبل أن تأتي إلى المدرسة تستيقظ باكرا فتجلس أمام المرآة طويلا حتى ترتب كل مساحيق الألوان على وجهها الذي يشبه زهرة دوار الشمس الفاتنة. وجدتني أقف فجأة، لكني عوض أن أوجه كلامي لأستاذ الفلسفة خاطبت باستهزاء كبير البنت إليزابيت: "ألم يكن حريا بك أن تولدي ذكرا وليس أنثى حتى تمنعي والدتك أن تشتغل راقصة في الملاهي وتعود ثملة عند الفجر؟". عم صمت مطبق داخل الفصل فقلت بتهكم شديد: "أليس غريبا أن نكون أحرارا ونحن مسلوبو الحق في اختيار حتى نوع الجنس الذي سننتمي إليه طيلة رحلة العمر؟". لم يجرؤ أحد أن يعلق على كلامي أو يأتي بنقيضه بمن فيهم أستاذ الفلسفة نفسه، لقد كنت رغم عاهتي (مشلول من اليد اليمنى) مهاب الجانب وأثير في نفوس زملائي وأساتذتي الخوف والذعر، كان الجميع يتحاشى معاكستي أو حتى مناقشتي خوفا أن تتطور الأمور معي إلى الأسوأ. أكيد خوفهم هذا له علاقة بعمل والدي، هل تتخيلون أي وظيفة هذه التي تجعل من صاحبها مهابا إلى درجة أن الناس تصير متحفظة في علاقتها حتى مع أفراد أسرته؟ دعوني إذن أخبركم أن أبي رئيس عصابة، والمرء على دين أبيه!. حاولت قدر الإمكان أن أتصرف بلطف مع زملائي وزميلاتي وأن أبدو مسالما ولبقا كما يليق بطالب في مرحلة الثانوي من التعليم أن يكون، لكنهم كانوا مقتنعين تماما بأني مجرم مثل والدي، وأنتمي للعصابة التي يترأسها، فكانوا يتصرفون معي بكثير من مظاهر التملق ويغدقون علي الكثير من الهدايا. قال لي والدي يوما: "الناس هي من تصنع فراعينها"، وها هم هؤلاء الطلبة السذج يصدقون كل الإشاعات التي يسمعونها عني وغالبا هم من يخترعها، والتي تتحدث عن صلابتي وقساوة قلبي وبشاعة إجرامي، فيهابونني أكثر، إنهم بفعلتهم هاته يجعلون الوحش القابع في أعماق نفسي يكبر أكثر، تمنيت لو أنهم استوعبوا أن الفرعون حينما لا يجد من يصده ويلجمه يصير فرعونا أكبر. حينما اكتشف والدي العلاقة الحميمة التي صارت تربطني بالبنت إليزابيت ضحك كثيرا وقال: "الحب والإجرام وجهان لعملة واحدة. لا أدري لماذا القانون يعاقب فعل الإجرام ولا يفعل الشيء نفسه مع الحب؟ مع العلم أن فعل الحب يكون في بعض الأحيان أكثر تدميرا ويخلف مآسي وأحزانا ونزيفا حادا في القلب والنفس". شعر والدي بأني لم أفهم جيدا حديثه الأخير فقال موضحا: "الإجرام في الأصل حالة رومانسية، هل تعلم أن الانتحار، هذا الفعل الإجرامي ضد النفس، يقوم به عادة أكثر الناس رومانسية؟". اكتفيت بابتسامة بلهاء ولم أرغب أن أستمر في مناقشة هذا الهراء، أي إنسان عاقل هذا الذي يمكنه أن يتصور أن هناك علاقة بين الحب والإجرام؟ فهم والدي سخريتي وعدم اقتناعي، اعتدل في جلسته وأخذ نفسا عميقا من سيجارته ثم صار يصنع من الدخان القادم مع أنفاسه دوائر تسبح في هواء الغرفة وقال: "بعدما تخرجت من مدرسة الممرضين اشتغلت في مستشفى المدينة، كنت أمنح عنايتي واهتمامي بالتساوي بين كل مرضى العنبر الذي كنت أشغل فيه، لكن بمجرد قدوم السيدة سوزان صرت شغوفا بها أكثر وتمنيت لو لم يكن في العنبر كله إلا هي. من يستطيع أن يتخيل أن هذه الفاتنة الحسناء التي لم تتجاوز بعد ربيعها العشرين تستعد أن تستقبل خريفا جاء مبكرا على حين غرة، قلت لها ذات صباح: "سوزان، كم أنت جميلة كوردة التولب"، قالت مبتسمة، وقد شرقت فجأة وجنتاها الشاحبتان والذابلتان احمرارا بلون الشمس ساعة الشفق: "الحب كمياء مفعوله كالسحر، عجبا هاهو الموت إذا يقتلني يحيني". سألتني سوزان وقد تعمدت ألا تنظر إلي: "كم من الوقت مازال لدينا؟"، قلت لها بعدما أمسكت برأسها بين كفي وصرت أنظر داخل عينيها الدامعتين: "لنا كل العمر حبيبتي حتى ولو كان هذا العمر ساعة أو دهرا، متى كان العمر يحسب بالأيام؟ يكفي أن تكوني بجانبي لكي أشعر بالحياة". اتفقنا أن ننسى مرضها نكاية في كل الأطباء والفحوصات والتحاليل التي كانت تقود لنتيجة واحدة، أن أوراق وردتي التولب الجميلة تتساقط بسرعة الواحدة تلوى الأخرى... تدهورت سريعا حالتها وبت أقضي أسوأ أيامي بالقرب من سريرها، وهي تتوجع من الألم دون أن أتمكن من مساعدتها. قالت لي بصعوبة وهي تعاني من شدة الوجع: "ليس الموت هو الأسوأ بل هذا الألم الذي يمزقني إلى أشلاء"، كانت تشعر ببعض الارتخاء اللذيذ بعد كل حقنة مورفين. مع مرور أيام قلائل أضحى هامش الراحة التي يمنحها سائل المورفين يتقلص شيئا فشيئا، صرت أخالف تعليمات الطبيب وأمنحها كل مرة حقنة بجرعة أكبر لعلها تستريح أكثر؛ في ليلة كان ألمها أقوى من أي وقت مضى ولم يكن ليتحمله جسمها الفاني، كانت يدي اليمنى ترتعش وأنا أمسك حقنتها الأخيرة الكفيلة أن تجعلها تستريح إلى ما لا نهاية!. في المحكمة كان يصر المدعي العام على أني منحت سوزان حقنة قاتلة بينما كنت مقتنعا أنها حقنة للحب وليست للموت. لم أعارض أو أغضب من المحكمة حينما صنفت قضيتي ضمن الملفات الإجرامية، فكما قلت سابقا "الإجرام في بعض الأحيان حالة رومانسية". التقيت في السجن بصديقي مارك الذي سجن بسبب سرقة المحلات الكبرى والأبناك، قامت المظاهرات المنادية بإطلاق سراحه في عدد من الأحياء الشعبية والمهمشة. كان مارك يتكفل بمصاريف العديد من العائلات الفقيرة والمعدومة التي تقطن في تلك الهوامش البئيسة من البلد. مارك "مجرم" في نظر القانون، لكنه يمثل عند هؤلاء أسمى معاني الحب والوفاء والتضحية. هل منكم من مازال يشك قيد أنملة أن الإجرام في بعض الأحيان حالة رومانسية؟. ما أتعسني بك يا والدي، أي لعبة بئيسة تلعبها معي وأنت تحاول أن تجمّل الإجرام في عقلي وقلبي؟ تريدني أن أستسلم لقدري الذي يقودني إلى مستقبل لا أريده لنفسي. أشعر بأنك يا والدي تحالفت مع القدر لكي أعيش مجرما كما هو ميسر لي أن أعيش. في تلك الليلة جاءتني إليزابيت، كانت سعيدة جدا، شعرت وكأنها تود أن تخبرني بأمر بالغ الأهمية، قالت والفرحة تكاد تنط من عينيها: "إني حامل"، صمتتُ قليلا وصرت أمشي في الغرفة ذهابا وإيابا ثم توجهت نحو النافذة، منحت إليزابيت ظهري حتى لا ترى أثار الدمار في وجهي جراء حديثها الأخير. لا أعتقد أن إليزابيت استوعبت كلامي حين قلت لها: "تمنيت لو نسافر إلى أرض محايدة، حيث الناس جميعهم سواسية، أرض لن يكون فيها الإنسان مجبرا أن يولد وهو يحمل معه شهادة حسن السيرة والسلوك". تسللنا تحت جناح الظلام وغادرنا البلدة ثم ركبنا قطار الفجر إلى وجهة لم نكن نعلمها بالتحديد، قالت لي إليزابيت: "لا أدري لماذا يراودني الإحساس وكأننا في رحلة هروب!"، قلت ونحن نتابع السير بخطى سريعة: "ربما هو هروب من القدر"، قالت بدهشة: "أليس القدر هو الله؟ فإلى أين الهرب إذن؟ سمعت ذات يوم والدتي تقول إن الله معنا دوما؟"، نظرتُ إلى يدي المشلولة العالقة بحبل حول عنقي وتمتمت ناقما وساخطا: "حقيقة لا أعلم هل هو معنا أم ضدنا؟". ركبنا القطار الذي أخذنا إلى أقصى بلدة جهة الشمال عند الحدود الألمانية، اقتنعت بأن الفندق الصغير الذي استأجرنا فيه غرفة متواضعة سوف يلتهم كل النقود التي في حوزتنا. لقد مر أكثر من شهر وأنا أتسكع في البلدة دون أن أتمكن من العثور على عمل. من يرضى أن يشغّل رجلا يحمل معه يدا ميتة؟. ما عجزت عنه طيلة شهر استطاعت إليزابيت في أول خرجة لها أن تحققه حين تمكنت من العثور على وظيفة عند السيدة زينب، امرأة مسنة ومريضة من أصول أندلسية. أحببت كثيرا الحديث مع العجوز زينب من أول لقاء حين رافقت زوجتي إليزابيت للتعرف عليها، وجدتها تجلس على كرسي هزاز وتنظر عبر زجاج نافذتها إلى الشارع، قالت دون حتى أن تكلف نفسها أن تلتف إلي وظلت عيناها شاخصتان إلى النافذة: "يروقني كثيرا التفرج على الناس، إنه الشيء الوحيد الذي مازالت أقدر عليه، كنت في السابق أجد الكثير من المتعة في المطالعة– وأشارت بيدها إلى مكتبة مثبتة على الحائط مكتظة بالكتب – لكن مع الأسف صار بصري ضعيفا لا يقوى على قراءة هذه الحروف الصغيرة". جلستُ على حافة السرير بعد أن أخذت كتابا من الخزانة وصرت أقرأ لها، أخيرا أشاحت بوجهها عن النافذة والتفتت إلي وقالت مبتسمة: "أتدري يا فتى إنه كتاب "التراجيديات الصغيرة" للعبقري الروسي ألكسندر بوشكين، مؤسس الأدب الحديث في روسيا، هذا الروائي الرائع خلف وراءه أعمالا أدبية خالدة وهو واحد من أشهر الكتاب العالميين رغم أن حياته كانت قصيرة جدا، مات ولم يتجاوز عمره العقد الثالث"، قلت لها جملة سمعتها ذات ليلة من والدي: "ومتى كان العمر يحسب بالأيام؟"، تابعت من جديد القراءة، حينما رأيت أنها أغمضت عينيها نهضت ببطء شديد ومشيت على أطراف بناني حتى لا أفسد عليها غفوتها الجميلة، قبل أن أغادر الغرفة سمعتها تناديني: "موعدنا غدا مساء لكي نكمل قراءة الكتاب، سأنتظرك بشغف كبير". صرت أذهب عصر كل يوم إلى السيدة زينب لكي أقرأ لها، وكنا أيضا نتحدث بين الفينة والأخرى، كانت شغوفة جدا بأصولها المشرقية، حكت لي مرة وبحب كبير عن زوجها -الذي مات قبل عام- تاجر المجوهرات، وكيف أنه استطاع في وقت وجيز أن يصير الأكثر شهرة ونجاحا بين كل تجار المجوهرات في أوروبا، قلت معلقا على كلامها: "من الواضح جدا أنه يفهم كثيرا في معدن الأشياء، أعتقد أنك كنت لؤلؤته وجوهرته المفضلة والأغلى التي جلبها معه من رحلته إلى الشرق". ضحكت زينب...وما أعذب وألذ ضحكتها. سألتني مرة عن يدي المربوطة بحبل حول عنقي، أخبرتها بأنها يد ميتة لا تصلح لشيء، الأجدر بها أن تكون تحت التراب، ما أشقى رجلا يحتضن كل العمر بين ضلوعه قبرا. لم أكن أرغب أن أرى الحزن في بريق عينيها الشاحبتين والذابلتين، لكنها فجأة ابتسمت وحكت لي عن سفينة كان يملكها بعض الصيادين الفقراء، فقام رجل صالح بخرقها وإتلاف زينتها حتى بدت كسفينة بئيسة لن تثير شهية اللصوص الذين كانوا يتربصون السفن بالسرقة، وختمت حديثها قائلة: "قد تكون أجمل هدايا القدر هو ذلك الجانب القاتم والبئيس من حياتنا"، لم أتفاعل مع قصتها لأني كنت أعلم جيدا أن السيدة زينب تقول أي كلام من أجل أن تجبر خاطري. مع مرور الأيام تغيرت مع الأسف أشياء كثيرة، تدهورت سريعا الحالة الصحية للسيدة زينب التي لم تكن تتجاوب بشكل إيجابي مع الأدوية الكثيرة التي تتناولها، حتى إن الطبيب اقتنع بأنه لا جدوى من أن تنقل إلى المستشفى؛ لم أعد أقرأ لها صرت معنيا أكثر بتلبية حاجياتها الأساسية من الطعام والشراب والنظافة، وكذا كنت أمنحها أقراص المورفين المخدرة، لاحظت في الأسابيع الأخيرة أنها وضعت تحت وسادتها صندوقا صغيرا مزينا بأحجار كريمة، أخبرتني زوجتي إليزابيت بأنها تضع أغلى وأثمن جواهرها داخل ذاك الصندوق الصغير. صار أنين وجعها في الأيام الأخيرة متواصلا لا ينقطع، آه حبيبتي زينب ما أقسى هذا الألم، بات متوحشا وعنيفا لا يرحم، وما بال قرص المورفين أضحى لا يمنحك إلا أقل من ساعة هدنة كاذبة ليعود أنين الألم من جديد أكثر مكرا وشراسة، سمعتك تقولين: "ليس الموت هو الأسوأ بل هذا الألم الذي يمزقني إلى أشلاء". لا أدري عزيزتي، فأمام عجزي وقلة حيلتي هل علي أن أمنحك بدل القرص الواحد حفنة أقراص؟ هل تكون جرعة للحب بطعم الموت؟ ما أشقى الاختيار حبيبتي حين يكون الرحيل أرحم من البقاء...غادرتها متأخرا تلك الليلة بعد أن منحتها جرعتها الأخيرة وعدت إلى غرفتي في الفندق. في الصباح الباكر من اليوم الموالي سمعت طرقا عنيفا، حين فتحت إليزابيت الباب اقتحمت الشرطة المنزل من أجل اعتقالي بتهمة قتل السيدة زينب وسرقة مجوهراتها بعدما عثروا داخل دولابي على صندوقها المرصع بأحجار كريمة!. عُرضت على قاض التحقيق في مساء ذلك اليوم فوجدته ينظر بتمعن شديد إلى يدي الميتة المربوطة حول عنقي ويبتسم في وجهي ويقول: "توصلت للتو بنتيجة تشريح الجثة وظهر مما لا يدع مجالا للشك أن السيدة زينب قُتلت من طرف لص استعمل كلتا يديه في خنقها ومازالت آثار أصابع كفيه العشرة مطبوعة على عنقها، يدك المشلولة دليل براءتك". آه يا إلهي كيف يكون الجزء الميت مني هو من سيمنحني الحياة ويعتق هذا الجسد المهدد بحكم الإعدام؟ أيعقل أن يدي الميتة أكثر كرما من هؤلاء الأحياء الذين يتربصون بقتلي واعدامي بينما هي تهديني عمرا آخر؟ لم أستوعب طوال عمري أن دليل براءتي قد جعله القدر معلقا ومنذ يوم ولادتي حول عنقي من أجل هذه اللحظة الحرجة من حياتي، فقلت للقاضي: "قد تكون أجمل هدايا القدر هو ذلك الجانب القاتم والبئيس من حياتنا"، خاطبني مستغربا: "ربما اللص كان يروم بالتهجم على السيدة زينب سرقة الصندوق الذي وجدناه معك، يُقال إن السيدة زينب كانت تخبئ فيه أغلى جواهرها، لذلك كانت تضعه تحت وسادتها، الغريب أننا لم نجد بداخله إلا سبحة وعلبة كُحل صغيرة بداخلها مِرْود من الفضة، وكذلك بعض الرسائل القديمة، وقوارير بهارات وعطور تفوح بنسائم الشرق، وصورها بالأبيض والأسود من أيام طفولتها في بلاد المغرب!"، صمتتُ قليلا ثم قلت: "في الأيام الأخيرة من حياة السيدة زينب شعرت بأن هناك من يتربص بسرقتها فاستأمنتني على صندوقها الذي وضعت بداخله أغلى ما عندها، عندما تصل المرأة إلى سن السيدة زينب فإنها تتوسد أثمن ما تملك، تتوسد ذكرياتها....". كاتب وروائي مغربي مقيم بهولندا