لقد آثرت التطرق في مقالي هذا لموضوع قلما نتحدث عنه، وحتى وإن تحدثنا عنه فإننا غالبا ما لا نعطيه الأهمية اللازمة، بل هناك من يعتبره ثانويا في حياتنا، في حين أظن أنه من الأهمية بمكان، نتحدث كثيرا عن السياسة وهمومها وعن الاقتصاد وأزماته وعن كل شيء، لكن نتحاشى الحديث عن الحب رغم أنه عصب حياتنا، وسواء شئنا أو أبينا فإنه يلعب دورا مهما فيها. نجده في الأغاني التي يتغنى بها معظم من يسمون نجوم الغناء، ونجده في المسلسلات التركية والهندية والكورية والمكسيكية...ونجده في معظم الأفلام حتى الدينية منها، ونجده في أماكن أخرى لكننا لا نجده في حياتنا، بل أصبح عملة نادرة، ويكفي أن تقول بأنني أحب ليتهموك بالغباء والسذاجة ويسخروا منك، رغم أن حياتنا مبنية على الحب في جميع جوانبها.
وسبب تطرقي إلى موضوع الحب هو ذاك الشريط الذي بثته قناة العربية منذ أسابيع لذلك الزوج الجزائري الشهم وهو يقوم على خدمة زوجته التي أصابها شلل مفاجئ، هذا الزوج الذي قل نظيره في زمننا الأغبر يقوم بهذه المهمة لمدة فاقت خمس سنوات، وبينما كانت عدسة المصور تتحرك في منزل الزوجين البسيط جدا وتنقل صورة معبرة لأسرة فقيرة بالمعنى المتداول عندنا، كنت أتمعن في قسمات وجه الزوجة المشلولة التي كانت تحكي الكثير والكثير، كانت تلك القسمات تشي بأن السيدة وإن كانت حزينة في أعماقها نظرا للفقر المدقع التي تعيشه هي وزوجها وابنها، إلا أنها كانت سعيدة وأستطيع المبالغة في القول بأنها كانت سعيدة جدا في أعماقها، كيف لا وهي ترى زوجا لم يتنكر لها رغم مصابها، بل أخذ على عاتقه أن يظل معها ويقوم بحملها والتكفل بجميع متطلباتها دون كلل ودون تبرم، ولن أنسى ابتسامة الرضا على محيّاها وزوجها يحملها بين ذراعيه، وحتى الزوج أثناء إجراء الحوار معه لم يتبرم من حالة زوجته، بل اشتكى من وضعه المادي وعدم مساعدة دولته له، ليتبين لنا أن مشكلته ليست في زوجته المشلولة، بل المشكل في قصر ذات يده ليقوم بإعالة أسرته كما يجب.
ما أحوجنا إلى التعلم من ذلك الزوج، الحب، الوفاء، التضحية وأشياء أخرى كثيرة افتقدناها في زمن أصبحت فيه حياتنا كالحة، بئيسة، باسلة لا طعم لها، حياة غلبت عليها المصالح الشخصية والأنانية والطمع...
الحب كلمة لا يستطيع مقال أو كتاب فك طلاسمها أو حتى مجلدات ومجلدات، لأنه ببساطة إحساس صادق يخرج من القلب، وقد شبهه الرسول صلى الله عليه وسلم بالرزق حين قال في حق زوجته خديجة رضي الله عنها: " إن الله رزقني حبها"، ومن منّا لا يعرف قصة الحب التي جمعت بين الرسول عليه السلام وخديجة رضي الله عنها، ومن لا يعرفها فهذه هي الفرصة ليطلع على تلك القصة الرائعة، ويكفي أنه عليه الصلاة والسلام ما فتئ يذكرها حتى بعد موتها ولا يقبل أي جدال في هواها:" كلا والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وواستني بمالها ورزقني الله منها الولد..."
هي دعوة للحب ما أحوجنا إليها في زمن الحاسوب والفايس بوك والتويتر والفضائيات والأغاني السريعة...
أترككم مع سيدة عجوز سئلت عن الحب وعن معناه فقالت: أول مرة سمعت هذه الكلمة كنت صغيرة وكانت من والدي الذي قبلني وقال لي أحبك، فقلت الحب هو الحنان والأمان والحضن الدفيء... عندما بلغت سن الرشد وجدت رسالة تحت باب المنزل أرسلها ابن الجيران عنوانها اسمي ومحتواها أني أحبك... فقلت الحب هو جرأة وجنون... عندما خطبت لابن الجيران وتعرفت عليه كانت أول كلمة أسمعها منه، أحبك، فقلت الحب هو طموح، عمل، هدف وإرادة... تزوجت وفي ثاني يوم زواجي قبلني زوجي على رأسي وقال لي: أحبك، فقلت الحب هو شوق وولع وحنين... مرت سنة فولدت أول أولادي كنت متعبة ملقاة على سريري، فجاءني زوجي وأمسك يدي وقال لي أحبك، فقلت الحب هو، شكر وتقدير وحنان... بعد مرور السنين، شاب شعر رأسي وتزوج الأبناء، فنظر زوجي لشعري وقال لي مبتسما، أحبك، فقلت الحب هو، رحمة وعطف... طال العمر وصرنا عجزة وفي كل مرة زوجي العزيز يقول لي أحبك، فأقول الحب هو، وفاء وصدق وإخلاص وعطاء...
هذا هو الحب، كلما زدنا في العمر كلما اكتشفنا أسراره، هذا هو الحب يبدأ صغيرا فيكبر شيئا فشيئا.