من النادر أن تعنون محاضرات المفكرين العرب، بالحدث المعرفي الكبير، إذ يكون خروج المفكر من عزلته البحثية إيذانا بسماع نظرية جديدة أو أفكار تجديدية أو مفاهيم مؤسسة، فيتلقاها جمهور السامعين بإعجاب، تعقبه أسئلة متلاحقة توسع أفق التفكير، و رحابة الرؤية المعرفية. الفيسلوف المغربي طه عبد الرحمن حاز شرف الندارة و الاستثناء، لا يصدر كتابا إلا بعد رحلة بحثية شاقة، و لا يتحدث إلا بعد وضوح الرؤية و فصاحة الكلمة. لا يصدر كتابا ليدبج سيرته العلمية قصد نيل المناصب الأكاديمية، و لا ليبيع و يشتري في سوق المعارض، و لا ليشارك في المسابقات التي تعد بالأموال السخية، إنه يكتب بقلب العابد المتحنث في محراب العبودية لله، إنه يكتب بعقل المنطقي الذي يؤسس المقدمات الصرامة ليصل إلى النتائج المرجوة، إنه يكتب بلسان العاشق للغة العربية في أصولها و مداراتها، إنه يكتب بعقل الفيسلوف الذي يضع المفاهيم على ميزان مرجعيته الفكرية، إنه يكتب الحرف في موضعه، و الكلمة مع أختها، و الجملة في سياقها، و النص ضمن نسق الأطروحة.. لذلك من الصعب على كل قارئ مبتدئ، أو ناقد متسرع، أو باحث متعالم، أن يحاجج طه في ما يذهب إليه شكلا و مضمونا، ولذلك أغلب الباحثين الجادين، هم في مرحلة فهم ما يصدر عن هذا الفيلسوف الدقيق العبارة و العميق الإشارة، فيكتب الدكتور عباس أرحيلة كتابه:" فيلسوف في المواجهة: قراءة في فكر طه عبد الرحمن" إصدار المركز الثقافي العربي ط 1، 2013، فكتابه محاولة تعريفية بفكر الفيسلوف الذي يخوض معركة ضد المقلدة، من متفلسفي العصر الحديث، و اقتفى أثر التعريف و الإفهام الباحث المغربي إبراهيم مشروح في كتابه :" طه عبد الرحمن ..قراءة في مشروعه الفكري" إصدار مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي. سلسلة أعلام الفكر والإصلاح في العالم الإسلامي. بيروت. 2009. لا يعني انحياز بعض الباحثين إلى الكتابة عن مشروع طه عبد الرحمن و التعريف به، أنهم يقدسونه ويهابون نقده، أو أنهم يسوقون لمنتوج فكري نهائي، أجاب عن كل الأسئلة إجابة شافية كافية، لا يأتيها الخطأ من بين يديها و لا من قبلها، بل على العكس من ذلك؛ هؤلاء لايريدون السقوط في الكتابات التي تريد النقد و المراجعة لا لشيء سوى الظهور بثوب الباحث المتجاوز للقراءات السابقة، فهو يؤكدون على أن مشروع طه في حاجة كبيرة إلى الفهم و الاستيعاب أولا، ثم تأتي مرحلة النقد والمراجعة، ولذلك نرى أن الكثير من المؤتمرات تعقد لهذا الغرض، و هذا ما ينهجه المؤتمر القادم الذي سينظم في جامعة أكادير، يناير 2014 حول :" الإبداع الفكري بين النظرة التكاملية للعلوم و المنظور التأثيلي لاستشكال المفاهيم في فكر طه عبد الرحمن"، فالناظر في جميع محاور المؤتمر يتضح له أن المنظمين يهدفون إلى اكتشاف المشاريع الكبرى في فكر طه، و محاولة إبرازها و الاشتغال عليها بالبحث و الدراسة.. نعم؛ هذه أحد سمات تفاعل الباحثين مع فكر طه، فهم لا زالوا في مرحلة الاكتشاف و محاولة الفهم، لكنها مرحلة جميلة مشوقة، كل من دخلها يريد أن يكتشف أكثر، و في حماسة زائدة لقراءة و سماع ما يصدر عن طه، بسبب فرادة قوله، و ألمعية فكره، فهو خارج تيار الجمود و التقليد، رائد تيار التجديد و الإبداع من داخل المجال التداولي الإسلامي، ولذلك يصبح حدث إصدار كتاب لطه، خبرا سارا بين الباحثين، يزف على منصة الاحتفال و الابتهاج، رغبة في المتعة العقلية و التذوق الروحي.. و ما أجملها من لحظة، حينما يطل الفيلسوف طه عبد الرحمن على تلامذته، من خلال ندوة علمية، فيتحقق الوصل، و تتحاور العقول، و تتعانق الأرواح، فيعم الندوة كل مشاعر الأخوة الفكرية، و الأنوار الروحانية، كل ذلك دون أن يتوارى قلق السؤال، و وهج الإشكال، لكي لا تتحول الندوة إلى حضرة دراويشية،أسلم مريدوها،عقلوهم لشيخهم يفعل بها ما يشاء، فندوة طه لا تضع النهايات، بل تفتح الآفاق على كل المستويات، الكل له الحق في التجربة العقلية الممزوجة بتسابيح الروح، شرط التسلح بآليات البحث العلمي الجاد.. نحن في انتظارك غدا يا طه، بارك الله لك في الصحة و سدد العقل وهدى اللسان .. [email protected]