فيلسوف أحكم عقله بقواعد المنطق، و زكى نفسه بتسابيح الإحسان، و اكتشف ذاته بعقلانية الحوار، و كتب مؤلفاته بالجمع بين العبارة و الإشارة، و بالمزج بين شاعرية المعاني و صرامة المباني، فبنى الحجج الداحضة، و الاستدلالات الدامغة، في محاوراته مع الآخرين، و أبدع في أفكاره المأصولة، غير مقلد لسلف جامد، أو لخلف تابع، يدهشك في تأثيل المعاني و العبارات، مستندا إلى عبقرية اللغة العربية في أصولها الاشتقاقية.. إنه الفيسلوف المغربي؛ المبدع في حوراته مع أطروحات المخالفين، مهما كانت توجهاتهم، و كانت عقائدهم، تقدم مؤلفاته دروسا وافية في "الحوارية العقلانية"، التي بنى قواعدها، وسبك منهجها، و نحت مصطلحاتها، في كتابه الشهير " أصول الحوار و تجديد علم الكلام"، و استثمر ذلك، في كتابه الموسوم ب" تجديد المنهج في تقويم التراث" ناقدا و معترضا على "الأطروحة التفاضلية"، للمفكر المغربي محمد عبد الجابري رحمه الله، في نقده للتراث العربي الإسلامي.. لا يسلك طه عبد الرحمن درب الجداليين، المثيرين للزوابع الكلامية، و المتحمسين بدوافع فكرانية / إيديولوجية زائفة، مشوبة بضحالة التفكير، و رداءة المنطق، و ترهل الاستدلال، و وهن الحجة، بل يصدر في كتاباته عن استماع عميق إلى درجة الإنصات للمخالفين، فيعي مقدماتهم، و يفهم مضمون خطابهم، و يفقه مقاصد نصوصهم، وينظر في مفاهيم مصطلحاتهم، فيأتي الرد؛ لا حبا في إظهار الانتصار، و تبكيت المخالف، بل قصدا إلى تطوير المعرفة، و إثراء العلم، كما يتصور مفهوم " المناظرة" في مشروعه الفكري. إن الحوار في فكر طه، يتصوره على جناحي الحق و الواجب، فللمتكلم الحق في اعتقاد ما شاء، و قول ماشاء، وله الحق في انتقاد الاعتقاد و الرأي، غير أنه من الواجب عليه، أن يستدل بالأدلة و الحجج على صحة اعتقاده و رأيه، و من الواجب أيضا أن ينصت لأدلة المنتقِد قبل أن يعترض على دعواه، فيصبح بذلك، الحوار ممارسة استدلالية، يختبر فيها المتحاوران أو المتحاورون، آليات الاستدلال، و مدى صحة الدعوى من عدمها، مما ينتج عن ذلك بناء معرفة خرجت من صلب التمحيص و النقد، و تطورت في محضن الجماعة العلمية، و لم تُتلق عن شيخ ملهم، لا يأتي قوله الخطأ من بين يديه و لا من خلفه، وما على المريدين سوى الاتباع دون نقد أو اعتراض.. يدهشك الفيلسوف طه عبد الرحمن، باعتقاده أن الحقيقة متعددة، و ليس فقط طرق الوصول إلى الحقيقة !، فطه يفرق بين الحقيقة من جهة الوجود، و بين الحقيقة من جهة الحكم، فالأولى؛ بمعنى وجود حقائق متعددة، و ليس هناك حقيقة واحدة، و الثانية؛ بمعنى تعدد الحكم بحسب ناقلي الحقيقة، فكل ناقل لواقعة ما، ينظر إليها من زاويته، و هنا يشير إلى أنه قد يُتفق على القول بتعدد الحقيقة من جهة الحكم، غير أن من جهة الوجود، قد يقع اللبس، و لرفعه يستحضر مفهوم "حركة الزمان" و أثره في تغيير الحقيقة من جهة وجودها.. هذا التنسيب في " الحقائق" يكسر غلواء التعصب، و شهوة الازدراء بالمخالف، و يحفز على الحوار مع كل التوجهات والأفكار و المذاهب و الملل و النحل، ابتغاء تحقيق قيمة الحوار، التي يعتبرها أنها "هبة إلهية" و أنها " واجبا إنسانيا"، بشرط أن يحترم كل متحاور شروط الحوار العقلاني، وأن يبتعدوا عن أقبح آفة تسربت إلى الحوارات، و انتشرت كانتشار النار في الهشيم، يسميها " آفة الغصب"، و معناها، أن المنتقِد يحكم على الدعوى بالخطأ و البطلان دون أن يستمع إلى محاوره، فيشيع الهرج المرج بين المتحاورين، و لا يلوي أحدهما على شيء، اللهم سوى إيهام النفس بإفحام الخصم.. فعلا، أحسنت "الشبكة العربية للأبحاث و النشر" في اختيار عنوان " الحوار أفقا للفكر" على صدر دفة الإصدار الجديد لطه عبد الرحمن، و هو عبارة عن حوارات قديمة مع الإعلام، و هذا العنوان يتناسب مع حاجات المرحلة التي تعيشها المنطقة العربية. ما أحوج العرب اليوم، إلى التفقه في مفهوم " الحوارية العقلانية"، قصد تطوير المعرفة، و تجديد بنائها الاستدلالي، فيكون العقل حاكما، لا الصراخ و السَّباب، و الاتهام بالتخوين و المؤامرة لكل مخالف. [email protected]