ماكرون يشكر جلالة الملك محمد السادس عبر مكالمة هاتفية    التجمع العالمي الأمازيغي يضرب في نتائج الإحصاء المرتبطة باللغات المستعملة        موتسيبي يقوم بزيارة الدول المستضيفة ل "الشان"    نسج الزرابي فن صامد في المغرب رغم ضعف مداخيل الصانعات    بوساطة ملكية حكيمة.. إنجاز دبلوماسي جديد يتمثل في تأمين الإفراج عن أربعة فرنسيين كانوا محتجزين في واغادوغو    المغرب وألمانيا يوقعان شراكة للتزويد بالماء الشروب المتكيف مع المناخ    رامي إمام يطمئن الجمهور عن صحة عادل إمام ويكشف شرطًا لعودة الزعيم إلى الشاشة    تركيا تدعو المجتمع الدولي لإزالة "هيئة تحرير الشام" من قوائم الإرهاب    من هو نَسيم كليبات الذي تم تَسليمه للسُلطات الإسرائيلية؟    "هيومن رايتس ووتش": إسرائيل ارتكبت جريمة ضد الإنسانية بحرمان الفلسطينيين من الماء في غزة    وهبي يؤكد التزام المغرب بحماية حقوق الإنسان ومواجهة تحديات القضايا الناشئة    الوداد بدون جمهور يتحدى الجيش الملكي في القنيطرة    حكيمي ضمن أفضل 100 لاعب لسنة 2024    كيوسك الخميس | خبراء الداخلية يعملون على تقسيم إداري جديد    أعضاء المجلس الإداري لأكاديمية سوس ماسة يُصادقون بالإجماع على برنامج العمل وميزانية سنة 2025    مديرية الأمن تطلق البوابة الرقمية E-POLICE وخدمة الطلب الإلكتروني لبطاقة السوابق    جلالة الملك يواسي ماكرون إثر مرور إعصار تشيدو على أرخبيل مايوت    كأس الرابطة الانجليزية: ليفربول يواصل الدفاع عن لقبه ويتأهل لنصف النهاية    توقعات أحوال الطقس اليوم الخميس    بطولة فرنسا: ديمبيليه يقود باريس سان جرمان للفوز على موناكو والابتعاد في الصدارة    أكاديمية المملكة تشجع "محبة السينما" باستضافة الناقد إدريس شويكة    بعد التراجع 25 عاما إلى الوراء في مستوى تحصيل تلامذتنا في العلوم، هل تحدث الصدمة التربوية؟    رسمياً.. الأمن الوطني يقدم جميع خدماته الإدارية للمواطنين عبر موقع إلكتروني    الأندية المشاركة في بطولة القسم الممتاز لكرة القدم النسوية تعلن استنكارها لقرار العصبة الوطنية وتأثيره السلبي على مسار البطولة    ريال مدريد يتوج بكأس القارات للأندية لكرة القدم        فريق مستقبل المرسى ينتزع فوزًا ثمينًا على حساب فريق شباب الجنوب بوجدور    الولايات المتحدة.. الاحتياطي الفدرالي يخفض سعر الفائدة الرئيسي للمرة الثالثة خلال 2024    ما هي التحديات الكبرى التي تواجه القيادة السورية الجديدة؟    حجز آلاف الأدوية المهربة في مراكش    وزير الخارجية الشيلي: العلاقة الشيلية المغربية توفر إمكانيات كبيرة للتعاون    الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي يخضع للرقابة بسوار إلكتروني لمدة سنة بعد إدانته بتهم الفساد واستغلال النفوذ    فرنسا تقيم الخسائر بعد إعصار مايوت    شباب جمعية "أسوار فاس" يواصلون الإبهار بعروض مسرحية متنوعة بطنجة    تسجيل أول حالة إصابة خطيرة بإنفلونزا الطيور في أمريكا    بوريطة يؤكد الحاجة الماسة إلى "روح الصخيرات" لحل الملف الليبي    شركة "أطلنطاسند" للتأمين تعلن عن تقليص مدة الخبرة والتعويض إلى 60 دقيقة فقط    النقيب عبد الرحيم الجامعي يراسل عبد الإله بنكيران حول بلاغ حزبه المتعلق بعقوبة الإعدام    لماذا أرفض الرأسمالية ؟    كلمة .. شعبنا آيل للانقراض    معاناة متجددة لمرضى السل بفعل انقطاع الدواء باستمرار        وداعا أمي جديد الشاعر والروائي محمد بوفتاس    حفل توقيع "أبريذ غار أوجنا" يبرز قضايا التعايش والتسامح    مزور يشرف على انطلاق أشغال بناء المصنع الجديد لتريلبورغ بالبيضاء    جمعيات تعبر عن رفضها لمضامين مشروع قانون التراث الثقافي    تداولات الافتتاح ببورصة الدار البيضاء    اختيار الفيلم الفلسطيني "من المسافة صفر" بالقائمة الطويلة لأوسكار أفضل فيلم دولي    تطوان تُسجّل حالة وفاة ب "بوحمرون"    مزرعة مخبرية أميركية تربّي خنازير معدلة وراثيا لبيع أعضائها للبشر    علماء يطورون بطاطس تتحمل موجات الحر لمواجهة التغير المناخي    السفير الدهر: الجزائر تعيش أزمة هوية .. وغياب سردية وطنية يحفز اللصوصية    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من المغالطة إلى الحجاج.. نظرية جديدة في الحوار
نشر في المساء يوم 18 - 11 - 2011

قدم الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن نموذجا نظريا في الحوار أسماه نظرية «مراتب الحوارية»، بما هي فعاليات خطابية تستوفي شروط الاستدلال، نصيا واقترانيا واستدلاليا،
وتستوفي شروط التداول اللغوي، نطقيا واجتماعيا وإقناعيا واعتقاديا. ويقسم مراتب الحوارية إلى مرتبة الحوار ومرتبة المحاورة ومرتبة التحاور. وتختص كل مرتبة بنموذج نظري ومنهج استدلالي وشاهد نصي. واستثمر طه عبد الرحمن في نموذجه النظري كل مستويات التخاطب، التبليغية والتدليلية والتوجيهية، وهذا ما تضمنه كتابه الفريد «في أصول الحوار وتجديد علم الكلام».
وفي هذا السياق النظري، أصدر المفكر المغربي الشاب والباحث المنطقي رشيد الراضي، كأحد القراء المميزين لمشروع طه عبد الرحمن العلمي، كتابه «الحجاج والمغالطة، من الحوار في العقل إلى العقل في الحوار».
وقد ميز بين التواصل والتحاور؛ التحاور بما هو فعل قاصد يستند في انبثاقه وارتقائه إلى قاعدة من الوعي النظري والاقتناع العملي اللذين يسندانه ويوجهانه. كما أن التحاور ممانعة أخلاقية لنوازع الأنانية والاستعلاء المتأصلة في طبائع الناس؛ لذلك أصبح سؤال الحوار حاضرا بشدة في كثير من الحقول المعرفية المختلفة كالفلسفة والأخلاق والمنطق وعلم النفس وعلم الاجتماع. كما ربط المؤلف بين العقل والحوار لتقويم الفكر وتصحيح مساره، داعيا إلى «العقل في الحوار» قبل «الحوار في العقل» وقضاياه المتنوعة؛ فحياتنا الفكرية والسياسية تعج اليوم بمظاهر هي من الحوارات غير العاقلة المتسلحة ب«الحجج المعوجة»، مما يعطل الفاعلية الحوارية/الحجاجية ويعطل طاقتها في إنتاج المعقولية، فينتج عندنا ركام لفظي، فكري أو سياسي، متضخم من «السفسطة» و«المغالطة» مما تحمله برامج الإشهار وخطب السياسيين ومناظرات أهل العقائد والمذاهب والملل والنحل والأحزاب والطوائف.
وأضحى مبحث الحوار حديث العلماء وأهل الاختصاص من المناطقة وعلماء اللسان والتواصل والباحثين النفسيين والاجتماعيين، فلا تخلو جامعة من جامعات الغرب أو معهد من المعاهد الأكاديمية من شعب خاصة بالحوار والخطابة والحجاج والتواصل؛ همها تأسيس ثقافة حوارية إيجابية تقوم على الحجاج المؤسس على الاقتناع والتدليل، ورصد مظاهر التمويه والخداع في أساليب الخطاب والتحاور أو ما يسمى ب«السفسطة». وقد عرفها أرسطو بكونها استدلالا صحيحا في الظاهر معتلا في الحقيقة، أي أنها نوع من العمليات الاستدلالية التي يقوم بها المتكلم وتكون منطوية على فساد في المضمون أو الصورة بقصد أو بدونه.
ويرجع الباحث المنطقي الراضي السفسطة إلى تلك الحركة الفكرية الاجتماعية التي ظهرت في اليونان القديمة حوالي القرن الخامس قبل الميلاد، والتي اعتمدت شعار «الإنسان مقياس كل شيء»، وتنكرت للقيم الموضوعية والمعايير الثابتة في الفكر والعقيدة والسلوك والأخلاق؛ فالحقيقة وفق التفكير السفسطائي هي ما يراه الفرد حقيقة، وهذا ما جعلهم يبررون اللجوء إلى الحيل الخطابية والألاعيب القولية من أجل مصلحة راجحة، فتحولوا إلى دهاقنة الكلام لكسب تأييد الجمهور وحشد المناصرين، بل وإقناع صفوة المجتمع ونخبته بالتعاطي لأساليب السفسطة وتعلمها لامتلاك السلطة المرتبطة بسطوة اللسان.
وتصدى رواد النزعة العقلانية في الفلسفة اليونانية، سقراط وأفلاطون وأرسطو، لهذه الحركة الفكرية التحريفية، فتراجع نفوذها الاجتماعي والسياسي، كما انحسرت فكرتها السفسطائية القائمة على نسبية الحقيقة، وحلت محلها الفكرة المؤمنة بقدرة العقل على اكتشافها بجهده التأملي الخالص. وأصبحت السفسطة، التي كانت يوما حكمة، نوعا من التفكير المعوَّج والمخادع، وأصبح السفسطائي هو ذلك الدجال المخادع الذي يلوك الكلام ويتحايل بلسانه ليقنع المخاطبين بفكره الباطل واستدلاله المغلوط؛ لذلك ورث الفكر اليوناني عن الحركة النقدية للسفسطة عداء لكل مظاهر الخطابة والبلاغة ولكل فكر مؤسس على التقنيات اللغوية؛ وفي المقابل، تحمَّس للطرائق البرهانية الخالصة المبنية على قواعد العقل وأصول المنطق. وقد انعكس هذا العداء على الدراسات الفلسفية الإسلامية والغربية الوسطوية والحديثة والمعاصرة. ويذهب الباحث رشيد إلى أن آثار هذا العداء للبلاغة واللغة مازالت ممتدة في عامة الناس الذين يتوجسون من شخصية الخطيب ويعتبرون كلامه أجوف وبلا مصداقية. وقد خصص أرسطو في مدونته «الأورغانون» كتابا خاصا للسفسطة أسماه «السفسطة أو التبكيتات السفسطائية»، ومازالت أفكاره تحتفظ بالكثير من راهنيتها وقوتها، خصوصا أمام الانتشار الهائل لمظاهر الممارسة الحجاجية اليوم، والتي تعتبر أبرز الصور التواصلية في الخطابات المعاصرة. ويبقى مجهود أرسطو في نقد الحركة السفسطائية من حيث منطق تفكيرها وطرائق استدلالها أهم مساهمة على الإطلاق في هذا الباب، خصوصا في تمييز الأقسية السليمة والمقدمات المشروعة، إذ إن الفلسفة في الأخير هي نوع من الأقيسة. وقد رصد أرسطو طرق السفسطة من جهة الألفاظ أو من جهة المعاني. وأصبحت أبحاث السفسطة والحجاج تدرج اليوم ضمن ما يسمى ب«المنطق اللاصوري» أو «الفكر النقدي» أو «منطق الحوار» أو «المنطق التطبيقي» أو «الخطابة الجديدة» أو «الحجاج»؛ وهدفها تقويم الكلام والخطاب بالابتعاد عن مظاهر العبث والمشاغبة والسفسطة مما يضر بالعلم ويفسد العمل. وقد أصبحت السفسطة في الأبحاث النقدية المعاصرة صفة تكوينية في أية فاعلية فكرية وتفاكرية، وهي عادات للفكر مترسخة في ثناياه ولا سبيل إلى استئصالها إلا بجهد تربوي وتطويعي متواصل. وقد أورد الباحث المنطقي رشيد الراضي مظاهر تخاطبية، مما يدرج عادة عند منظري الحوار في باب «السفسطة» مما يكثر تداوله في البرامج الحوارية الإذاعية والتلفزيونية التي أصبحت معلما من معالم الإنتاج الإعلامي المعاصر. وقد ركز الباحث على «السفسطات اللاصورية»، والهدف من عرضها هو الابتعاد عنها وعن ممارستها والاحتراز من الوقوع في شراكها، ثم لتضييق الخناق على «السفسطائيين الجدد» الذين يوهمون الناس ويملؤون حياتهم بالأباطيل والأغاليط والأوهام. وقام الباحث الراضي بمجهود كبير في ترجمة أسماء السفسطات وأنواعها، كما مثل لها من الواقع اليومي للحوار كما يسود في الملتقيات الحوارية المختلفة الخاصة بمجالنا التداولي.
وتمتد السفسطات في الخطاب من النوع الهين إلى السفسطات المعضلة والمخربة للفكر، وهي المنتشرة في عالم السياسة والتجارة والولاءات المذهبية في غياب مستمع متنبه ويقظ. ومن أنواع السفسطات التي أوردها بحث الراضي سفسطة تجريح الشخص أو المشهورة لاتينيا ب«أنت أيضا»؛ وسفسطة الخبير، وهذا النوع يمطرنا به الإعلام المرئي يوميا، فنسمع ونقرأ: «خبير في قضايا حقوق الإنسان» و«متخصص في الحركات الإسلامية» و«باحث في شؤون الشرق الأوسط»، وفي هذا النوع من السفسطة يتم توظيف الطبيعة الاشتباهية لمفهوم الخبرة في الانتساب إلى زمرة المتخصصين دون وجه حق؛ ويتفرع عن هذا النوع من السفسطة نوع أشد خطرا وهو «سفسطة الخبير المجهول»، وفيه نسمع: «يقول العلماء» و«أجمع العلماء» و«لقد قرأت في إحدى المجلات المختصة» و«وجدت في أحد الكتب»، وهي عبارات تكثر في كلام السفسطائيين الجدد.
ومن أنواع السفسطات أيضا «سفسطة المآل»، وهي التماس صدق الفكرة أو كذبها من مجرد النظر في النتائج المترتبة عنها، ووجه السفسطة في هذا النوع أن القيمة الصدقية للقضايا مسألة مستقلة بذاتها، تحكمها معايير مستمدة من قوانين موضوعية ومحايدة تقوم على أحكام العقل وتقريراته، أي على المبررات العقلية للاعتقاد في فكرة ما وليس التبريرات الأهوائية؛ وهذا ما يقربنا من نوع آخر وهو «سفسطة العاطفة»، وتقوم على مخاطبة عواطف الناس لدفعهم إلى الاعتقاد بالفكرة أو الموقف، وهذا ما نلمسه في كلام الدعاة المذهبيين أو الحزبيين مثل قولهم: «مذهبنا فيه سعادتك في الدنيا ونجاتك في الآخرة»، أو «مذهبنا كله خير وصلاح ونور وفلاح».



محمد همام


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.