تسعى كل عقلية ديكتاتورية، فاشلة ناقصة، لأن تنصب نفسها حارسة للفضيلة والصلاح وعدوة للفساد والمفسدين، وتبرع في كيل الاتهامات لطرف غريم، وتوزيع صكوك الغفران لطرف خليف، وتروج وتطبل لعقيدة النقاء دون أن تطبق منها حرفا، وإن فعلت فعلى نطاق ضيق محدود، وسرعان ما تلجأ أيضا إلى التخفي وراء أسطوانة المؤامرة المشروخة، لتبرير كل تقاعس أو تنازل عن واحدة من هذه الشعارات والعقائد. تهاجم من برجها العاجي، بعبارات منتقاة، يلهج لسانها بالانحياز للنور وللصلاح والاصلاح، وترمي خصومها بالفساد والافساد، صراحا أو بالهمز واللمز، في إشارة إلى تطهير الذات، بتلويث سمعة الآخر وشيطنته، هذا برنامج العقلية الناقصة التي فشلت في امتحان السياسة وتدبير الشأن العام، تبرير ما لا يبرر، وشيطنة الغريم. تتأدلج الذات وتتفخم، ومثلما تعملق الآخر يوم التقت المصالح، يتشوه الغريم ويتشيطن، وتنمحي المناقب عند اختلاف الوضع وتعارض التموضع، فتسلط عليه ألسن، وشبكات، ووسائل إعلام، وإشاعات، تتصيد زلاته، تشكك في نواياه، تحور مقاصده، وتشوه خطبه، وتتغاضى عن حسناته، وتنقب في خصوصيات يومياته، لعلها تخرج بصيد يزيد من شيطنة الغريم. إننا بتنميط الغريم عبر سلسلة من الأكاذيب وخطابات التشهير اليوم، نصنع فتن الغد ومن يدري مجازره، وسنطوي المراحل وبسرعة ننتقل من شيطنة الغريم في اشتباك بالكلام والحناجر، إلى شيطنة لا تبقي ولا تذر، واشتباك بالسلاح والخناجر، متناسين أنه "ولا تزكوا أنفسكم، هو أعلم بمن اتقى". وأجزم أن الخلاف السياسي الطافي على الساحة، وهو مناسبة هذا الكلام، بين الشباطيين والكيرانيين، كأنها حرب بسوس تغلب وبكر وكلهم بنو وائل، حول ناقة اسمها حكومة لا سلطة لها سوى تسيير اليومي من أغراضنا، والصغير من أقدارنا، كرس لدينا (هذا الخلاف) ثقافة جديدة هي شيطنة الآخر كنتيجة للخلل السيكولوجي قبل السياسي والأيديولوجي، الذي بنيت عليه أسس هذا الفريق الذي يدعي التماسك وهو منه براء. وأسوأ من ذلك، حين انبرى الأتباع المتحزبون للتطبيل والتهليل، بين من يرغي ويزبد مستعرضا فتوحات "معبوده" ابن كيران، في أوراش الإصلاح الكبرى والإنجازات العظمى، متقمصا شخصية سانتشو بانثا في رواية ثربانتس الشهيرة، وبين من صار من المتحزبين على درب "معبودهم" شباط، الذي اختار أن يتبرز ملاحظات من تحت الأرض، لأهل الأرض، كما رواية دستويفسكي. وأدهى وأمر، انحياز من لا يستشار، ومن في المعادلة صفر دون اعتبار، من لا يفهم في السياسية مقدار حبة خردل، نحو التبرك بطرف والتصفيق له، وكيل الاتهام للآخر، الغريم، صبا للزيت على النار، لا على أساس الإيمان والاقتناع، وإنما انطلاقا من باب "ليس حبا في علي وإنما كرها في معاوية"، وليذهب الوطن إلى الجحيم. إن الخشية أن تنزل شيطنة الغريم إلى الشارع فيترجمها الأتباع الرعاع إلى نتائج مدمرة، بعد أن يستحيل بقوة التحريض والتخوين، هذا الغريم، إلى شيطان أمرد، ينطلق الصياح مع الدم المدرج بعدها، أن ها إني قتلت الشيطان وقطعت ذيله ووضعت قرنيه في عينيه، الله أكبر. إن التعصب ليس درجة إيمان، بل خللا في التركيبة النفسية، والعدل في إطلاق الأحكام مطلب مشروع وضرورة ملحة، لذا ينبغي التوقف عن شيطنة الغريم، من أجل بناء غد سليم، غد يقبل الجميع ولا يستثني أحدا من حق أو في واجب، ويبشر بنسائم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وإلا فحتما ستضيع جهود عشرات السنين، لأمة لاهثة خلف أزمات أمكن تجنبها، لو توقفت الأطراف عن كيل الاتهامات، الخاسر فيها هو الوطن الذي احتضننا من قبل بكل اختلافاتنا.