"مدينة فاس.. حرسها الله" -السوسيولوجي بول باسكون الحلقة الثالثة: التنظيم الديني عبر هذه الحلقة الثالثة، سنحاول الحفر الأنثروبولوجي في موقعية مركزية في نشأة ظاهرة المدينة، عبر النبش الفكري في مسألة التنظيم الديني. في الحلقة السابقة توصلنا إلى نتيجة عميقة، وهي أن سكان البادية وأساسهم التنظيمي الذي يتمثل في القبيلة، والتي تتكون بدورها من عناصر واحدة ومشتركة بين كل القبائل مهما اختلفت مواقعها الجغرافية، وإذا كانت تعود في جل تنظيماتها إلى القانون العُرفي، فهل يمكن الجزم بناء على ذلك، أن البادية لا تعرف إلا هذه الثقافة العُرفية الوحيدة، كمواجهة -حسب البعض من الأنثروبولوجيين الاستعماريين- للثقافة المخزنية، ثقافة المدن التي تتميز بطابعها التجريدي الإسلامي؟ إن البحث في المستوى الثقافي للبادية هو ما يقدم الجواب على هذا السؤال بالإثبات أو النفي. لقد عرف المغرب قبل أن يستقر على المذهب المالكي السني عدة محاولات لأسلمة سكانه البربر، تراوحت بين المذهب الشيعي، والاعتزالي والخارجي (نسبة إلى الخوارج)... ومع مجيء إدريس الأول، تحت هاجس نشر الإسلام والذي لم يتمكن من تعميمه، ظل محدودا ببعض المناطق قبل ترسيخه كعقيدة رسمية مالكية في القرن 11م. وإذا كان الإسلام كدين حضري، فإن ما يمكن ملاحظته بصدد انتشاره هو أنه كلما ابتعد عن مركز الإشعاع الحضري إلا وأخذ يفقد من لمعانه، وبالتالي كلما أخذ يتغلغل في البوادي إلا وأخذ يختلط بالأعراف والأساطير... من هنا يمكن اعتبار الإسلام عقيدة واحدة فُهمت بأسلوب واحد في كل المناطق المغربية، ذلك أن الإسلام كدين حضري يختلف ضرورة عن الإسلام البدوي وإن كانا ينبعان من مصدر واحد. ولعل هذا الاختلاف مرده إلى طبيعة كلا الواقعين، من هنا نلاحظ أن البادية مثلت المركز الخصب للزوايا والمرابطين، بينما ظلت المدينة مركزا للمعاهد الدينية والعلمية والعقيدة "الطاهرة" والعالمة-المجردة، فاس مثلا. لقد كانت العقيدة المالكية كما قُدّمت بالمغرب رمزا لممارسة التقليد باعتبار النموذج مرتبطا بالماضي، مما جعل التقليد يتخذ وظيفة تعويضية عن الاجتهاد والإبداع العقليين، وقد مارست هذه العناصر آثارا عميقة على تجميد الثقافة لمدة طويلة على كافة المجتمع المغربي. لقد ارتبط ظهور الزوايا بمرحلة اضطراب سياسي عرفها المغرب ما بين القرنين 15و16، حيث نلاحظ تراجع تجارة الذهب واحتلال البرتغال للشواطئ المغربية... في هذه الظروف العصيبة، ستلعب طاهرة الزوايا دورا فعالا على الصعيد السياسي والإيديولوجي، كما ستمارس هيمنة عميقة على كل البوادي، بل سيمتد تأثيرها حتى إلى المدن المغربية. يمكن اعتبار هذه الحركة بمثابة رد فعل متميز على عقيدة صارمة تتمترس خلفها السلطة المركزية الحاكمة بالمدن، وبهذا المعنىيمكن اعتبارها رفضا للفهم الواحد المحتكر من قبل السلطة وعلمائها، فإذا كانت العقيدة المالكية -سابقا- هي "صياغة وحدة الجماعة المغربية" (1 ذكره ادريس بنعلي ص 258 le Maroc précapitaliste... نفس المعطيات السابقة)، فإن هذه ما لبثت أن انتقلت إلى الحركة الجديدة التي استطاعت من خلال زعمائها أن تجد استجابة عميقة داخل الأوساط الشعبية، وهذا ما جعل جاك بيرك يشير إلى أن اتساع هذه الحركة بالمجتمع المغاربي المعاصر للنهضة الأوروبية، يعبر دون شك عن ظهور لإيمان جديد يتخذ زيا إسلاميا، ونشاطا أهليا، وقيما زراعية مستقرة، كانت نزعة عدم الاستقرار قد كبتتها منذ القديم (2 جاك بيرك ذكره بنعلي ص 258 نفس المعطيات). إنها باختصار إحياء للمغرب الفلاحي. إن ما ميز الحركة الصوفية بالبادية مثلا هو أنها تمكنت من أن تكيف التعاليم الإسلامية مع الحياة القاسية والاجتماعية للجماهير الفلاحية، بل يمكن القول إن الزاوية تحظى بتقديس أكثر مما يحظى به المرابط القبلي، من حيث أن الأولى تقدم للفرد وسيلة تمكنه من أن يخرج من إطاره القبلي الضيق، وبهذا الصدد يشير بنعلي إلى أن هذا الشكل الديني كان قد لقي منذ القرن 18م حتى 19 تقديسا يفوق بكثير ذلك التبجيل الذي يحظى به المرابطون، نظرا لكونها تعمل على إدماج الإسلام القروي بمجموع الأمة الإسلامية، كما أنه يدمج الفرد "المنغلق" ضمن الجماعة الإسلامية (1 ذكره د. بنعلي ص 36 ن المعطيات). وهكذا كان الزعماء الروحيون يستجيبون لحاجيات الجماهير عارضين عليهم وسائل لمواجهة التهديدات الأجنبية، مالئين هكذا عجز المخزن عن تحقيقها أمام الضغوطات الخارجية، فقد عملوا على إقرار النظام والأمن بين القبائل، كما أنهم استطاعوا أن يهدِّئوا من الفوضى التي كانت القبائل عُرضة لها، حتى يتم التوجه إلى ما هو أساسي، الجهاد ومحاربة الاحتلال الأجنبي. لقد فرضوا أنفسهم كحكام في حل المشاكل التي تنشب بين القبائل المتخاصمة، خالقين من حولهم وحدة الجماهير الريفية من خلال رفع شعار الجهاد ضد الغزاة، وأخيرا تمكنوا من تشكيل إطار تربوي وتكويني (تعليم وتربية تتمثل في حركة صوفية بديلا لإسلام رسمي مغرق في التجريد). ولعل هذا ما دفع جاك بيرك أن يقول بصدد إسلام العلماء بأنه "غير ذي قيمة على الصعيد المحلي، أو أنه غير قابل للاستعمال ضمن السياق القبلي تحت شكله المستقيم والحضري" (2 ذكره بنعلي ص 39 ن. المعطيات، مصدر مذكور). ولكن ما هي معايير ومضمون هذه الحركة، وما هي آثارها على المستوى الاجتماعي؟ يمكن إيجاز مبادئ هذه الحركة في نقاط ثلاثة: التسليم بأولوية الخوارق الطبيعية مما يترتب عنه أن الإنسان عاجز أمام قوى الطبيعة. النموذج -نموذج الخلاص يكمن في الماضي وهذا الموقف يترتب عنه ضمنيا عدم اعتبار للحاضر وللمستقبل- إذ كل تقدم تاريخي يعتبر وفقا لهذا المنظور ابتعادا عن النموذج الخالص. حجب الواقع الحسي. إن عجز العقل الإنساني عن اختراق مجاهيل الطبيعة تعتبر هنا كمصادرة قاعدية، ذلك "أن المعرفة العليا غير اجتماعية، هي لا قيمة لها إلا بالنسبة لمن يتلقاها، ولا يعاني (صاحبها) لا من عدم تفسيرها على قاعدة عقلانية، ولا من عدم البرهمة عليها" (1 ذكره بنعلي ص 259). لقد كانت لهذه المصادرة آثار سلبية عميقة جدا على الصعيد الاجتماعي نذكر منها على سبيل المثال "بركة" القديسين التي اعتُبرت من مظاهر النّعم الإلهية التي خُصُّوا بها دون سائر الناس، غير قابلة لأي تفسير أو فهم، يجب التسليم بها فقط. كما نلاحظ أيضا أن بعض الطقوس الغريبة والتي تم استيعابها من قبل الزوايا ساهمت بعمق في شلّ كل تفكير عقلي وكل مجهود معرفي، لقد اقتصرت ممارسات الزوايا على شحذ الذاكرة من خلال استرجاع واستظهار الأوراد والأذكار، وإنكار الذات، من أجل سلخ الكائن عن واقعه الحياتي... لقد كانت للحقبة التي ظهرت بها الزوايا بالمغرب -وهي حقبة تميزت بأزمة اقتصادية وهجومات خارجية- عواقبُ سيئة عليها من حيث دفعت بها إلى الى الانكفاء على الذات، مما جعل المغرب يتقلص دوره إلى تبني سلوك دفاعي، وهو المظهر الذي وسم ظاهرة الزوايا -من خلال رفض الواقع الحاضر- اعتمادا على التشبث بالماضي، ومحاولة إحياء مؤسسات عتيقة، إضافة إلى غياب سلطة أو طليعة قادرة على اتخاذ مبادرة فعالة تزرع فيها بذورا تحركها باتجاه المستقبل. كل هذه العوامل ساهمت في طبع ظاهرة الزوايا بطابع اليأس وفقدان الأمل في النجاة إلا بالعودة إلى نموذج السلف، مما جعل هذه "المحن" تبدو في هذه الحقبة كعقاب سماوي على الأخطاء المُرتكبة ضد مبادئ الإسلام (2 ذكره بنعلي مصدر مذكور ن. المعطيات ص 260). لقد كان من جراء هذه التعاليم أن تشكلت نظرة جامدة وعقيمة، كان من مظاهرها خضوع أعمى أمام قوى الطبيعة، هكذا أصبح الصوفي يقف عائقا أمام أي جديد، لأنه في اعتقاده مخرب ومقلق، والعلم الدنيوي في نظره لا يستحق هذه الصفة، إذ وحده العلم الروحي هو الجدير بهذا اللقب. وعموما يمكن القول إنه كلما تعمقت الأزمة إلا وتعمقت اللاعقلانيىة وفقد المجتمع ثقته في نفسه وانغلق على ذاته "وبالطبع لم يكن بإمكان هذه الوضعية الثقافية أن تبقى مستمرة لو أن تطورات اقتصادية واجتماعية مهمة قد حدثت" ولكن الجمود الثقافي الذي طبع هذه الحقبة، كان قد سبقه أو ترافق مع الجمود الاقتصادي والاجتماعي. فهل نطمح في العثور على بديل للعقم -العام الذي شمل البادية- بالمدينة؟