استقالة وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان والعلاقات مع البرلمان المصطفى الرميد، كان بالإمكان اعتبارها استقالة عادية، لولا حيثيات وخلفيات تستحق تسليط الضوء عليها، لفضح النوايا الخبيثة التي أدت إليها؛ 1-بخصوص الظرفية الزمنية، فإنها تأتي في زمن حكومي يشارف على نهايته (أقل من سنة). وفي ظل الاستعداد، الحكومي والحزبي، للاستحقاقات الانتخابية المقبلة التي ستكون في خريف السنة الجارية، في الغالب. هذا المعطى يلبس رسالة الاستقالة حالة شُبهة المناورة السياسية؛ التي تفيد بشكل واضح أنها تنم عن حرص شخصي وحزبي حثيث على تحقيق مصالح ضيقة، تهم جماعته وإطاره السياسي، وليس غايتها مصالح تهم الناس والوطن. وأبرز ما يفسر ذلك هو إصراره على التنويه بأن القضية تهم الاستقالة مع "عضوية الحكومة" ولم يرفق ذلك ب"عضوية الحزب"، وهو ما كان سيمنح زعمَه بعضا من مصداقية على الأقل ! 2-التذرع بالمرض لتقديم الاستقالة مردودٌ على صاحبه حتى ولو صدق في ادعائه، لأنه مهما يكن فلن يكون مريضا بالمرض العضال (أنجاه الله) الملزم صاحبه بالتوقف عن أي إجهاد أو نشاط عام أو خاص؛ وإلا لكان خبر مرضه قد أذيع عبر قنوات الإعلام الرسمية، بل وقد يحظى حتى بالرعاية المولوية للملك بالتطبيب والعلاج ولو خارج أرض الوطن. ما يفيد أنه كان بإمكانه الاكتفاء بأخذ إجازة مرضية بالقدر الذي يمكنه التشافي، والعودة إلى ممارسة مهامه بشكل عاد وطبيعي ! 3-بقدر ما يدعو هذا التصرف إلى استهجان الرأي العام (أنظر ردود مواقع التواصل الاجتماعي) على رخص وخبث الفكرة، فإن طريقة ووقت تقديم الرميد لاستقالته تجعل نفس الرأي العام لا يُكن الاحترام والتقدير لرجل دولة ومسؤول ظل وزيرا لثمان سنوات، ولم يستطع الصمود أقل من سنة لأنه فقط مرض مرضا عاديا، بينما الملك نفسه لطالما عانى من أعراض مرض أكثر إيلاما وخطورة، وكان يكتفي بمجرد أخذ فترات قصيرة من النقاهة، رغم قيامه بعمليات جراحية، وسرعان ما يعود إلى عرش الحُكم لممارسة مهامه؛ وهذا يجعل من "الرميد" عُرضة شبهة غياب روح التضحية لدى مسؤول، من أجل الوطن، حتى ولو سلمنا بوجود حالة المرض.. 4-معطى آخر يبرز إلى أي مدى يحرص مسؤولٌ مثل المصطفى الرميد وغيره من باقي الوزراء، سواء من حزبه أو من باقي الأحزاب، على المصالح الشخصية الضيقة، التي يجدون من أجلها الأعذار والمبررات بسرعة ويُسر، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالمرض، بينما لا يلقون بالا للمواطنين عندما يعانون في صمت وبألم، مثل السجناء المعتقلين، الذين كثيرٌ منهم كاد أن يفقد حياته، إما نتيجة خوضه إضرابا عن الطعام، أو نتيجة إصابته بمرض داخل السجن؛ وبالنظر إلى مسؤولياته طيلة حمْله الحقائب الوزارية (وزارة العدل+وزارة حقوق الإنسان)، فإنه كان أول مسؤول يجب أن يتفاعل مع حالات هؤلاء، ويتدخل على الأقل لتقديم العلاج الكافي والشافي لهم، بل ولِم لا تقديم استقالته وقتئذ كعنوان على شعوره وإحساسه بالمسؤولية، خاصة أمام إصدار منظمات دولية تقارير مُندِّدة بحالات سجنية مزرية. وآخر مثل هذه التقارير، تقرير صدر يوم الخميس الماضي، فقط، عن المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان ومقره جنيف، الذي أكد في بيان، أنه "وثّق تعرُّض اثنين من معتقلي حراك الريف، وهما "محمود بوهنوش" و"ناصر الزفزافي"، لِجملة من الانتهاكات، أدّت إلى تدهور حالتهما الصحية، خاصةً مع دخولهما إضرابًا عن الطعام والماء، احتجاجًا على ظروف احتجازهما في الحبس الانفرادي، ومَنعِهما من التواصل مع عائلتيهما، فضلًا عن حرمانهما من الحصول على الرعاية الطبية اللازمة" ! وبخصوص ملف هؤلاء المعتقلين، فإن السيد مصطفى الرميد ظل طيلة سنوات يرافع لتبييض وجه الحكومة والدولة، على السواء، بشأن ملفاتهم وفي ما يتعلق بالمجال الحقوقي المشوب بكثير من الانتكاسات والتراجعات، بل ويقوم بدور أشبه بدور "محامي الشيطان" كما كان قديما في الفكر الكِنسي، والذي كان يهدف إلى التضليل وتغيير الحقائق على الناس؛ وهو ما قام به أحسن قيام وأسوأه الرميد وزملاء له في كثير من الأحيان، لاسيما عندما كانوا يصطفون جماعات، أمام كاميرات وسائل الإعلام، للرد على منظمات حقوقية، بل واتهامها بمعاكسة الدولة المغربية، فقط لأنها رصدت انتهاكات داخل السجون وحتى خارجها، من خلال قمع الاحتجاجات وفك التظاهرات بالقوة والقمع. 5-مناورة "الرميد"، للظهور بمظهر الرافض للحصيلة الحكومية، ولو بغطاء مَرَضي، وهي حصيلة كما يعلم الجميع تكاد تكون كارثية، على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، كما تظهره المؤشرات الرسمية، وهو ما رصده حتى الجالس على العرش محمد السادس، وأدلى بدلوه فيه عندما خلص إلى القول بفشل النموذج التنموي بالبلاد، وحتى قبل أزمة وباء كورونا، التي أرخت بظلالها وزادت الوضع قتامة أكثر من أي وقت مضى.. مسعى الرميد للقفز من السفينة بهذه الطريقة، والانتخابات المقبلة على الأبواب، بقدر ما يعكس غياب روح المسؤولية السياسية لدى المعني بالأمر، فإنه يؤكد أيضا افتقاد القيادي في "بيجيدي" القدرة على التحلي بالشجاعة الأخلاقية والسياسية اللازمتين، لمصارحة ومكاشفة الرأي العام، بكل هذا الفشل الحكومي والحزبي الذريع، وهو ما يجعله يلوذ إلى طرق لا يلجأ إليها إلا الجبناء وعديمو الضمير، من الناس، الذين يُدلون بشواهد طبية مزيفة قصد التغيب عن العمل، وقصد كسب التعاطف من الآخرين، ومن أجل مداراة أي فشل مفترض بل وثابت أحيانا ! 6-وأخيرا، ولأن الوضع في المغرب يختلف عن غيره في باقي بلدان العالم، على مستوى استقالة أو إقالة الوزراء، فإن ما خطّته يد المصطفى الرميد، يبقى مجرد تعبير عن نوايا، لأن البلاط الملكي، ومن منطلق السلطات الدستورية للملك، التي تخوله الإقالة والاستقالة، بخصوص الوزراء، يبقى رئيس الدولة هو المقرر النهائي، حيث إن مستشاري الملك لابد أنهم سيقرأون ما بين سطور الرسالة وما خلفها، وسيبثون في الأمر؛ وعليه فإن الذين بيدهم الأمر من قبل ومن بعد، لن يمنحوه، بأي حال من الأحوال، شهادة إبراء ذمة من المسؤولية السياسية، بسهولة ورعونة، وهو ما يعيه جيدا الرميد وغيره؛ ما يجعل علمه المسبق هذا من المؤشرات التي ترجح رغبته في القيام ب"show" سياسي لا أكثر، وهذا "خُبثٌ" حتى ولو لبِس لُبوس المرض، وهو حالة إنسانية تستحق التعاطف، للأسف، لا الاستنكار ! و #خليونا_ساكتين