بحيويّة لا تُخطِؤها العين على الوجوه، وبحماس ظاهر، ينزلون من الحافلات التي تحمل أرقام تسجيل تثبت قدومها من مختلف مدن المغرب. تلفظهم الحافلات جماعات، ويجتمعون أمام قاعة "ابن ياسين" بالرباط. يردّدون أناشيد وشعارات، ثم يدلفون إلى القاعة. الأمر لا يتعلق بجمهور جاء لمساندة فرقين سيتنافسان داخل القاعة الرياضية، بل بشباب حزب العدالة والتنمية، الذين حجّوا مساء يوم أمس، إلى قاعة ابن ياسين، لحضور أشغال المؤتمر الخامس لشبيبة الحزب. أوّل ما يُلفت انتباه الزائر هو التنظيم المُحكم الذي سَهر عليه شباب من الحزب. على يمين القاعة خيمة بيضاء مخصّصة لتسجيل حضور الصحافيين. الصحافيون وضيوف المؤتمر يدخلون من الباب الرئيسي للقاعة، فيما باقي المؤتمرين يدخلون من الأبواب الخلفية. الشباب الساهرون على عملية تنظيم مؤتمر شبيبة ال"بي جي دي"، ومن أجل ضمان تنظيم مُحكم لمؤتمرهم، يتواصلون فيما بينهم عبر أجهزة الراديو، أو ال"طولكي وولكي"، تماما كما يفعل البوليس أثناء تنظيم حدث مهمّ. هنا، لا أثر للفوضى، رغم أنّ الحضور كان كبيرا. الدخول إلى القاعة يتمّ بسلاسة، وبلا مشاكل. عندما يتوجّه أحدهم إلى الباب الرئيسي المخصّص لدخول الضيوف والصحافيين، ويُمنع من الدخول، لا يسأل لماذا، بل يسأل عن الباب المخصّص للعموم، ثم ينصرف بسلام. بعد الساعة الخامسة عصرا، أيْ بعد أكثر من ساعة عن الموعد الذي كان مقررا أن تنطلق فيه أشغال المؤتمر، والذي حُدّد في الساعة الرابعة عصرا، كانت قاعة ابن ياسين قد امتلأت عن آخرها. مضمار القاعة مفروش بالزرابي، وعليها كراس حمراء وبيضاء. الكراسي الحمراء مخصّصة للمؤتمرين، والكراسي البيضاء التي توجد في الصفوف الأمامية مخصّصة لضيوف المؤتمر. الاعتدال والوسطية اللذان يعتمدهما الحزب في خطابه يظهران بشكل واضح في مدرجات القاعة. الذكور والإناث، اللواتي يرتدي أغلبهنّ الحجاب، يجلسون جنبا إلى جنب، مختلطين وبدون حواجز. بعد لحظات من امتلاء القاعة سيشرع الجميع في ترديد الأناشيد المعتادة التي حفظها الجميع عن ظهر قلب، قبل أن تتحوّل الأنظار إلى الباب الرئيسي للقاعة، عندما دخل وزير التجهيز والنقل، عبد العزيز الرباح، تحت وابل من التصفيقات. ينزل الرباح الأدراج ويأخذ مكانه في الصفّ الأمامي، وبعد لحظات ستهتزّ القاعة مرة أخرى بهدير من التصفيق. الداخل هذه المرة، هو الأمين العام للحزب، ورئيس الحكومة، عبد الإله بن كيران. الرجل تصالح مع ربطة العنق التي كان بينه وبينها خصام قبل أن يصير رئيسا للحكومة، وربما يكون هذا المؤتمر أول مؤتمر للحزب يحضره وهو يرتدي بذلة وربطة عنق. حيّا الرجل الجميع بابتسامته وتلويحة يده المعهودة، فتجاوب معه الجمهور بشعار "ها هي ها هي العدالة والتنمية"، ثم نزل الأدراج بدوره وتوجّه إلى مكانه في الصفّ الأمامي. قبل أن يجلس ابن كيران، وقف لاستقبال ممثلي الشبيبات الحزبية القادمين من عدد من البلدان العربية، وتركيا. يتقدّمون نحو الأمين العامّ ويصافحونه، ويهمس كل واحد منهم في أذنه باسمه وصفته، بسبب الصخب الذي يعمّ القاعة والذي يجعل فرصة الاستماع إلى ما يقوله الآخر تتضاءل، ثم يتوجّهون إلى مقاعدهم، بعد السلام. يبدو أنّ ابن كيران بدأ يفْتتن بقواعد البروتوكول. ابن كيران كان يجلس على كرسيّ يتوسّط الصفّ الأمامي، وإلى جانبه على اليسار جلس وزير الدولة، عبد الله بها، يليه وزير الخارجية والتعاون، سعد الدين العثماني، ثم وزير التجهيز والنقل، عبد العزيز الرباح، فالوزيرة بسيمة الحقاوي، وعلى يسارها الوزير محمد نجيب بوليف، ثم إدريس الأزمي، الوزير المنتدب لدى وزير الاقتصاد والمالية. الدّقة كانت هي السمة الأساسية لمؤتمر شبيبة ال"بي جي دي". ليس في التنظيم فقط، بل حتى في الآيات القرآنية التي افتُتح بها المؤتمر، والتي ابتدأها المقرئ من الآية الكريمة (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته، ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعا، ولا تفرقوا). الاعتصام بحبل الله، وتجنّب التفرقة فيه إشارة إلى شباب الحزب للصمود، في "وجه الضربات" التي قال ابن كيران إنّ الحزب ما زال يتلقاها. وإضافة إلى دقّة التنظيم، واختيار كل شيء بعناية فائقة، فإنّ برمجة الكلمات التي ألقيت في افتتاح المؤتمر اختيرت بدورها بعناية. الكلمة الأولى ألقاها الكاتب الوطني للشبيبة، مصطفى بابا، أعقبتها كلمة رئيس حركة التوحيد والإصلاح محمد الحمداوي، وجاءت كلمة الأمين العام للحزب، عبد الإله بنكيران في النهاية. هم يدركون ولا شكّ أنّ الكثيرين قد ينسحبون من القاعة عقب الاستماع إلى كلمة ابن كيران، لذلك أخّروها إلى النهاية، كي يظلّ "التشويق" مستمرا إلى آخر نفس من أنفاس الجلسة الافتتاحية للمؤتمر. قضية الوحدة الترابية كانت حاضرة بقوة في المؤتمر، سواء من خلال اللافتات، أو في الكلمات التي ألقيت بالمناسبة. أعلى المدرّجات ثمة لافتة كبيرة مكتوب عليها "تشبث دائم بالوحدة الترابية". هناك أيضا لافتات مكتوبة باللغة الأمازيغية، بعد أن كان الحزب يُناصبها "العداء" قبل أن يراجع موقفه منها إثر إقرار الدستور المعدّل باعتمادها لغة رسمية إلى جانب العربية. ثمّة أيضا لافتة، في ركن القاعة، يعلوها علَم فلطسين، وتحْته عبارة "القدس عاصمة فلسطين". شباب الحزب ردّدوا أيضا شعار "الشعب يريد تحرير فلسطين". من هو هذا الشعب الذي يريد تحرير فلسطين؟ ومتى سيحرّرها؟ وكيف؟ لا أحد يعلم. بعد أن حضرتْ قيادات الحزب، وغصّت القاعة عن آخرها، انطلق الحفل بآيات من الذكر الحكيم، أعقبه وقوف الحضور تحيّة للنشيد الوطني، ثم كلمات كل من الكاتب الوطني للشبيبة، مصطفى بابا، وكلمة رئيس حركة التوحيد والإصلاح، محمد الحمدواي، وكلمة باسم ضيوف المؤتمر، ألقاها ممثل شبيبة حزب النهضة التونسي، قبل أن يصل دور ابن كيران. الأخير ظهر بوجه أكثر صرامة، وقبل أن يتناول الكلمة ردّد الحضور شعار "كلنا فدا فدا... للحكومة الصامدة". وجْه بنكيران، الذي كان يظهر بصورة مكبّرَة على الشاشة المنتصبة خلفه كان صارما للغاية، لا أثر فيه لابتسامته المعهودة، والكلمة التي ألقاها بدورها كانت خالية من القفشات التي كان يُضحك بها الناس. يبدو أنّ المدة التي قضاها الرجل في منصبه جعلته يدرك أنّ الوقت وقتُ جِدّ ولا مجال للتنكيت والقشفات. ما يّترجم ذلك هو حركات يديه التي يخبط بهما على المنصّة بين فينة وأخرى، وسبّابته التي يلوّح بها في الهواء. الرجل، وكما هي العادة، تحدّث عن "جهات تعمل في السرّ، لإفشال مشروع الحكومة" التي يقودها حزبه، لكنه، وكما في كل المرات التي تحدّث فيها عن هذه الجهات، لم يسمها بالاسم، بل اكتفى فقط بوصف "المشوّشين"، كما وجّه رسائل عدّة، إلى من ينتقدونه، دون الافصاح عن أسمائهم. واحدة من هذه الرسائل قال فيها ابن كيران "المشاكل التي نتخبط فيها اليوم تركها لنا الآخرون، هم الذين تركوا لنا عجزا في الميزانية ب600 مليار درهم، ونحن لسنا مسؤولين عن ذلك، لذلك لا يحق لمن ترك لنا عجزا بنسبة 6 بالمائة أن ينتقد الحكومة"، في رسالة يبدو واضحا أنها موجّهة إلى أمين عامّ حزب الاستقلال، حميد شباط. أحمد عصيد، وجّه إليه ابن كيران بدوره رسالة واضحة، وإن لم يذكره بالاسم، عندما قال، موجها كلامه لشبيبة الحزب "كونوا متسامحين... كونوا معتدلين.. كونوا منفتحين، لكن في إطار الإسلام، وعلى الآخرين احترام عقيدة الأمة"، مضيفا بغضب "لا يُعقل أن يتمّ التعريض بحياة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام". جملة واضحة موجّهة إلى أحمد عصيد، اهتزت بعدها القاعة على وقع نشيد "لا إله إلا الله... عليها نحيا وعليها نموت". انتهت كلمة ابن كيران، فصفّق له الحاضرون بحرارة، ثم شرع الجميع في ترديد الأناشيد والشعارات. خارج القاعة كان الكثيرون ينتظرون خروج رئيس الحكومة، ربما لديهم طلبات يودّون إيصالها إليه، لكنهم لم يفلحوا في ذلك، بعدما حال بينهم وبينه الطوق الأمنيّ المشكّل من الحرس الخاص، الذي شكّل حوله خاتما أمنيا سميكا، إلى أن دلف إلي سيارة ال"كات كات" الرمادية التي كانت في انتظاره.