عندما ذهب الداعية السعودي الشيخ عائض القرني قبل شهور إلى باريس في رحلة من أجل العلاج ، أعجبته الحضارة الفرنسية التي أثمرت شعبا بسلوكيات راقية ومتحضرة ، هذه السلوكيات راقت الشيخ القرني كثيرا ، لدرجة أنه كتب "شهادة" في حق الفرنسيين يهنئهم فيها على تحضرهم ورقيهم . واستهل "شهادته" قائلا : "" " أخشى أن أتهم بميلي إلى الغرب وأنا أكتب عنهم شهادة حق وإنصاف ، والله إن غبار حذاء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أمريكا وأوروبا مجتمعتين ..." . طبعا لن أكمل هذه "الشهادة" التي أدلى بها الشيخ القرني في حق الفرنسيين والغربيين عموما ، وسأقف عند هذه الجملة الغريبة التي قال فيها بأن غبار حذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من أمريكا وأوروبا مجتمعتين ! أولا ، عندما نسمع كلاما كهذا ، لا يمكننا إلا أن نتأسف ونتحسر على هذه الأمة الاسلامية التي أرسل الله تعالى إليها رسولا كريما قام طيلة مرحلة نبوته بمجهودات جبارة من أجل إخراج الناس من الظلمات إلى النور . فإذا بنا نفاجأ اليوم في عصر التطور الهائل الذي يشهده عقل البشرية بأنه ما يزال من بين المسلمين من يقدس غبار حذاء رسول الله عليه الصلاة والسلام . والمؤسف أكثر هو عندما يصدر كلام كهذا من داعية إسلامي معروف يقتدي به آلاف المسلمين . الأمر يدعو فعلا إلى الاستغراب ، ويدعو في نفس الآن إلى القلق . لقد كانت المهمة الكبرى التي من أجلها بعث الله تعالى رسوله الكريم إلى سكان الجزيرة العربية الذين كانوا غارقين في ظلمات الجهل الأعمى وقتذاك هي تنقية عقول الناس من هذا الظلام ، وجعلهم يقتنعون بأن الله إله واحد ، وأن المقدس الوحيد هو الله تعالى ، لأن العرب في ذلك الوقت كانوا يعبدون الأصنام التي يصنعونها من الأحجار ومن التمر أيضا ويقدسونها ، وبعد ذلك يأكلون تلك الأصنام المصنوعة من التمر . أي أنهم يأكلون تلك "الآلهة" التي يصنعونها بأيديهم بعد ان ينتهوا من عبادتها ! واليوم يأتي الشيخ عائض القرني ويقول بأن غبار حذاء رسول الله أحب إليه من أمريكا وأوروبا مجتمعتين . مثل هذه الأفكار هي التي جاء الرسول من أجل محاربتها ، وها هي اليوم تعود للظهور في الجزيرة العربية بعد رحيل الرسول بأكثر من 1400 عام ! غبار حذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس مقدسا ، وليس أفضل من حذاء أي انسان آخر ولو كان هذا الانسان يعيش وسط العاصمة الاسرائيلية تل أبيب ! فأرض الله واحدة ، والغبارأيضا واحد ! أنا أقدس الرسول الكريم باعتباره نبيا أرسله الله تعالى إلى البشرية من أجل هدايتها وإخراجها من ظلمات الكفر والشرك إلى نور الايمان ، وأقدسه أيضا لأن الله تعالى يقول في الآية التاسعة والسبعين من سورة "النساء" : "ومن يطع الرسول فقد أطاع الله" . صدق الله العظيم . لكني لا أقدس حذاءه وملابسه التي كان يرتديها ، ولا سيفه الذي كان يقاتل به الكفار في الغزوات التي كان المسلمون يخوضونها في عهده ، فكل هذه الاكسسوارات لو لم يكن الرسول يحملها لكانت من نصيب أي شخص آخر ، لذلك لا يجب علينا أن نقدسها ! وإذا كان الشيخ القرني يقول بأن غبار حذاء رسول الله أحب إليه من أمريكا وأوروبا مجتمعتين ، فأنا أقول له بأنه لا يوجد أي فرق بين الغبار الذي يتصاعد في سماء مكةالمكرمة وغبار العاصمة الأمريكيةواشنطن أو العاصمة الفرنسية باريس ! "فأينما تولون فثم وجه الله" . كما جاء في القرآن الكريم ، ولا فرق بين الشرق والغرب ، ولا بين الشمال والجنوب . مدينة مكةالمكرمة يوجد فيها بيت الله الحرام ، الذي تتوسطه الكعبة المشرفة التي يتخذها المسلمون قبلة للصلاة ، لكن غبارها ليس مقدسا . نحن نتوجه إلى ذلك المكان الطاهر عندما نصلي ، لكن لا يجب علينا أن نقدس أحجار المدينة وترابها وأشجارها وجبالها . القدسية لله تعالى ولرسله ، لأننا عندما نقدس هذه الأشياء فإننا ندخل أنفسنا إلى عالم الشرك من حيث لا ندري ، وإذا استمررنا في هذا الطريق فليس مستحيلا أن يأتي يوم نعود فيه لعبادة الأصنام الحجرية كما كان يفعل الناس في الجاهلية الأولى ! وقد كان المسلمون قبل سنوات قليلة فقط يقتطعون ما تيسر لهم من الثوب الحريري الذي تلف به الكعبة ويتبركون به عندما يطوفون حولها في أيام الحج أو العمرة ، قبل أن ترفعه السلطات السعودية إلى علو لا تصل إليه أيادي الحجاج ، رغم أن هذا الثوب ليست له أية قيمة من الناحية الدينية ، وقد يكون مصنوعا من طرف اليهود أو المجوس أو البوذيين ، ومع ذلك يصر الناس على التبرك به ! نحن المسلمون نحتاج فعلا إلى تصحيح نظرتنا تجاه كثير من الأمور . وعندنا في المغرب مثلا ، ما زال الناس يقدسون أولياء الله الصالحين الذين يرقدون داخل قبورهم منذ مئات السنين ، رغم أن هؤلاء الأولياء لا حول لهم ولا قوة ، بل أكثر من هذا هم بحاجة إلى أن يستغفر لهم الناس ويدعوا لهم بالرحمة والمغفرة ، عوض التبرك بهم ! وإذا كان غبار حذاء الرسول عليه الصلاة والسلام أحب إلى قلب الشيخ عائض القرني من أمريكا وأوروبا مجتمعتين ، فلماذا لا يأخذ قليلا من تراب مكة أو المدينةالمنورة حيث عاش الرسول ويتبرك به كي يشفى من مرضه عوض الذهاب إلى مستشفيات باريس ؟! يجب علينا أن نفتح عيوننا بما فيه الكفاية كي نرى الأشياء بوضوح ، وعندما يقول شيخ أو داعية كلاما لا يتفق مع المنطق والعقل علينا أن نقول له : أنت مخطيء يا سيدي . وهذا ما يجب علينا أن نقوله للشيخ القرني ، حتى لا تستمر الأمة الاسلامية في السير على درب التخلف . أعرف أن هناك من سيقول لي بأنني أتطاول على الشيخ بهذا الكلام ، وجوابي بكل بساطة هو أنني أحترم الشيخ القرني وأقدره ، لكني لا أقدس سوى الله تعالى ورسله الكرام ، لذلك فليس هناك أي عيب في أن أعارضه عندما أرى أنه خرج عن طريق الرشد والصواب ! [email protected] almassae.maktoobblog.com