إن خوض الهواة في بعض المواضيع المعقدة مثل قضية الماسونية وعلاقاتها بالمؤسسات السياسية والاقتصادية وبالمتغيرات التاريخية والوقائع, كان وما يزال مصدرا للتشويش على البحوث الأكاديمية الجادة ومادة خصبة سهلت على "خبراء التضليل" (Spin doctors) رسم صورة كاريكاتيرية لمن يحاول المساس بتلك التابوهات ومكنتهم من رميهم بتهمة الترويج ل"نظرية المؤامرة". وقد تطرقت بعض البحوث الرصينة لهذه الإشكالية ردا على من يخلط الأوراق إمعانا في صد الجمهور عن الأسئلة الشائكة والمصيرية. فكتب عالم اللسانيات الشهير نعوم تشومسكي رفقة الباحث في مجال اقتصاد مؤسسات الإعلام إيدوارد هيرمان دراسة مكثفة تحت عنوان "صناعة الإذعان" وهو عنوان مقتبس من مفهوم أخترعه الصحفي الأمريكي الشهير إيدوارد والتر ليبمان الذي أوكل إليه الرئيس الأمريكي وودرو ويلسن رفقة خبراء من مجالات مختلفة مهمة تضليل الرأي العام داخل لجنة عرفت ب”لجنة كريل”. يتحدث تشومسكي في هذا الكتاب عن تاريخ التضليل الإعلامي وتطور تقنياته داخل الديموقراطيات الغربية خلافا للخطأ الشائع الذي يجعل تطور البروباكاندا وليدا للديكتاتوريات. كما أننا يمكن أن نرى في هذا البحث جوابا مقنعا لشبهة التنظير المؤامراتي, إذ يتم الوقوف على العلاقات المعقدة التي تجعل تطويع الرأي العام لصالح النخب المالكة للقرار الدولي نتيجة طبيعية لامتلاك هذه الاخيرة للوسائل والإمكانيات الإعلامية الضخمة وتطويرها لأساليب تصهر الصحفيين العاملين بها وتحولهم “لكلاب حراسة” تطارد المعلومات المحرجة ومروجيها. ومن هذه المنطلقات التي أسلفت يجب الانتباه إلى أنه لا يوجد مكان داخل هذه المعارك المعلوماتية المتقدمة للمتساهلين بالنقولات غير المنضبطة والمقامرين بأمنهم المعرفي وأمن من يدافعون عنهم. ومن ثمة يجب على كل من دفعته يقظته للاحتراس من وسائل الإعلام أن يزيد احتراسا من عدو أكبر يكمن في الاندفاع لقبول أي شيء لرد العدوان فقد تتحول وسيلة الدفاع إلى سلاح مدمر يقتل حامله. ومن ثمة ينبغي اتباعها بعض القواعد الأولية للوصول إلى المصادر الجادة والأخذ منها ولن نسرد هاهنا مواقع لخزانات معينة أو أسماء لكتب محددة بقدر ما سنرد القارئ إلى أساسيات منهجية تغنيه عن التخبط و إضاعة الجهد والوقت في قراءة الخزعبلات التي كانت في السابق رهينة كتب “الفنتازيا المؤامراتية” وانتقلت فيما بعد إلى الشبكة العنكبوتية. وعليه يجب الالتزام بتسع نصائح : ألا يكون المقال أو الكتاب من قبيل الدجل المعرفي أو منحازا للنظريات العائمة مثل نظريات "الطاقة السلبية " أو نظريات "البرمجة العصبية واللغوية NLP " أو ما يسمى بعلوم الأطباق الطائرة، والكائنات الفضائية (Ufology)...وغيرها من النظريات التي لم تعترف بها مجامع البحوث الجامعية و المعتبرة. الفهم السليم للمفاهيم والمصطلحات قبل تداولها. عدم التسليم لأية نظرية مهما وافقت ما تظنه حتى تقوم عليها الأدلة. أن تكون الدراسة موثقة بشكل تفصيلي وتكون فيها البيبليوغرافيا (المراجع) متصلة السند متوفرة للرجوع إليها في حالة ما تطلب الأمر ذلك. التأكد من النقولات قبل تداولها (كثير من الاقتباسات والنقولات تكون غير دقيقة أو مترجمة من مصادر أجنبية بشكل خاطئ). ألا يكون صاحب البحث الذي ينقل كلامه من المجاهيل بل من دوي الخبرات الأكاديمية والبحثية. التواصل المباشر مع الأكاديميين المتخصصين في الموضوع المطروح عبرالجامعات التي ينتمون إليها أو مراكز الأبحاث لاختصار الوقت وعدم الوقوع في أخطاء المبتدئين. الإطلاع ما أمكن على النظريات المعارضة لها ومقارنتها بها مهما كان ذلك عصيا على النفس. التأني في النقل حتى تتكون صورة واضحة عن الموضوع وإحاطة مبدئية بأطرافه. هذا هو الحد الأدنى لتحقيق ما نتناقل من معلومات خاصة منها التي تخالف المألوف. فمن حاد عن هذه المبادئ الأساسية سيجد نفسه عرضة للتيه المعرفي و البارانويا فيسهل وضعه في خانة المهووسين بنظرية المؤامرة أو يقع في تطرف آخر أشد انحرافا فيعود من حيث بدأ ينفي التآمر جملة وتفصيلا وينكر التضليل الذي تتعرض له الجماهير من أطراف سياسية ولوبيات أخطبوطية تتحكم في القرار الدولي عبر مخططات جيوسياسية استباقية طويلة الأمد مكنتها من صياغة التاريخ. *خبير إعلامي وباحث متخصص في البروباكاندا التطبيقية