تشرئب الأعناق في كل مناسبة، وحتى من غير مناسبة، إلى زعماء حزب العدالة والتنمية، وتُرهف الآذان، من أجل تصيّد أي كلام (أو على الأصح أي فلتة لسان) يعبّر عن موقف مغاير لتوجه الدولة نحو تطبيع علاقتها مع إسرائيل. ولا شك أن زعماء الحزب على وعي تام بهذا الوضع، وهم يبذلون في تدبيره جهدا كبيرا. يبدو الأمر أشبه ما يكون بلعبة تقوم على عنصري المباغتة والمراوغة. يتحاشى هؤلاء الزعماء الحديث في الموضوع، ولا يخوضون فيه كثيرا. وعندما يُدفعون إلى الكلام، وهم كثيرا ما يُدفعون إلى ذلك، تجدهم متوترين رغم محاولاتهم إخفاء سمات ذلك التوتر. يجهدون أنفسهم وهم يبحثون عن كلمات مناسبة، كلمات يزنونها بميزان دقيق جدا. فهم لا يطلقون الكلام على عواهنه. وعندما يتكلمون فإنهم في الغالب لا يقولون أي شيء تقريبا. الواقع أن سلوكهم هذا عاد جدا، ومتوقع، ولا يُفترض أن يجد فيه المرء أي غرابة. وما على الأعناق، والحال كذلك، إلا أن تعود إلى وضعها الطبيعي، وما على الآذان إلا أن ترتاح. والذين ينتظرون أن يعبّر الحزب عن موقف واضح، وصريح، ومباشر ضد التطبيع إنما يشبهون "فلاديمير" و"استراغون" وهما ينتظران "غودو" في مسرحية صمويل بيكيت الشهيرة، أو تلك المرأة التي تنتظر السندباد على مشارف البحر عند الغروب في قصيدة "رحل النهار" لبدر شاكر السياب. لعل أول شيء يجب التأكيد عليه، في البداية، هو ضرورة فك الارتباط بين الدفاع عن القضية الفلسطينية وبين الأحزاب الإسلامية، سواء في المغرب أو في غيره من البلدان. إن القضية الفلسطينية ليست قضية مشترك لغوي وديني، بقدر ما هي، أولا وقبل كل شيء، قضية إنسانية. قضية شعب يبحث عن حريته وكرامته. وحقوقه تدافع عنها، بطريقة أو بأخرى، أحزاب كثيرة، بغض النظر عن موقعها في اليمين، أو في اليسار، أو في الوسط. ويشمل ذلك، وهذا أمر مهم جدا، أحزابا في دول غير إسلامية. من جهة أخرى، من المعروف أن للدولة منطقها الخاص. منطق له تاريخ، ومرجعيات، وأسس، وخطط عمل، واستشراف للمستقبل، وغايات واضحة. منطق يختلف عن منطق الأحزاب على اختلاف مرجعياتها، وحجمها، وقوتها، وأهدافها. فموقع الحزب في هرم السلطة قد يتغير باستمرار، وقد يتعرض للحل، بينما تستمر الدولة. كما أن منطق الحزب عادة ما يكون ضيقا جدا إذا ما تمت مقارنته بمنطق الدولة. هو على العموم منطق يهم الخاص بينما منطق الدولة يهم العام. يستمد الحزب مشروعية وجوده من الدولة، وهو يشتغل في إطار القوانين التي تسنها، وتسهر عبر مؤسساتها المختلفة على حمايتها. وتوجهات الدولة الاستراتيجية، وترتيب قضاياها الأساسية، تظل هي نفسها بصرف النظر عن الحزب الذي يقود الحكومة. وهذا أمر لا يخص دولة دون أخرى، وإنما يخص كل الدول، فلا نتصور، على سبيل المثال، أن الموقف الأمريكي من إسرائيل سيتغير بوصول الحزب الديمقراطي إلى السلطة بدلا من الحزب الجمهوري أو العكس. ثمة حالة واحدة يمكن خلالها أن تصبح الدولة وسيلة في يد الحزب، بحيث يجعل من أيديولوجيته أيديولوجية لها، ومن أهدافه أهدافا لها. في هذه الحالة يصبح الحزب مرادفا للدولة وتصبح الدولة مردافا للحزب. الحديث هنا يخص الأحزاب الفاشية مثل الحزب النازي في ثلاثينات وبدايات أربعينيات القرن العشرين. ومثل هذه الأحزاب تحتاج في وجودها، وعملها، واستمراريتها إلى شروط خاصة لم تعد عموما متوفرة في العالم المعاصر. يبدو أن وضع حزب العدالة والتنمية يشبه إلى حد كبير وضع أمير ميكيافيلي. فذلك الأمير، كما هو معلوم، مطالب، إذا أراد الحفاظ على دولته، بأن يتصرف على الدوام وفق منطق الدولة وليس وفق منطقه الخاص، وإذا اختار أن يتصرف عكس ذلك فإنه في هذه الحالة يخون دولته. ولاءه الأول والأخير يجب أن يكون للدولة. لا شك أن حزب العدالة والتنمية يوجد اليوم، شاء ذلك أم أبى، في وضع صعب. ولعل ما يزيد هذا الوضع صعوبة أن موعد الانتخابات أمسى غير بعيد. وفي كل الأحوال لا يجب اتخاذ التطبيع مع إسرائيل سوطا لمعاقبة الحزب، ولا للدفاع عنه بطريقة من الطرق، ولا لاتخاذ موقف لا أدري مما جرى ويجري. فمحاكمة الحزب في النهاية يجب أن تتم أساسا في ضوء ما حقّقه من تلك الوعود التي قدّمها للناخبين في برنامجه الانتخابي. ما عدا ذلك فتلك المحاكمة لن تكون على الأرجح عادلة ومنصفة.