أستاذ أسيدون، نحاورك بخصوص أحداث غزة، ما موقفك؟ ما هي مشاعرك كحقوقي إنساني تجاه حرب إبادة علنية؟ اسمحوا لي أولا أن أشكركم لفتح هذه الفرصة لمخاطبة قراء جريدة عمر بنجلون. إنها بالفعل إبادة وليست معركة عسكرية يتواجه فيها جيشان. القوة العسكرية الرابعة في العالم تصارع جيشا صغيرا من المقاتلين. يقول الاختصاصيون إن ردهم على العدوان يفوق ما تعرض له الجيش الصهيوني من قدرة الردع في جنوبلبنان في 2006. وعجز الغزاة أمام أبطال مختلف الفصائل المكافحة جعلهم يسلكون طريقا للانتقام من المدنيين. وهناك العديد من الأمثلة على هذا الانتقام البشع ! رمي قنبلة على الأطفال الذين كانوايلعبون على الشاطئ، و هناك مثل آخر في شهادات تبرهن أن وحدة عسكرية يسمح لها بالانتقام من المدنيين عندما تفقد جنودا في القتال. كيف يعقل أن يدخل الجندي الصهيوني في مثل هذه الجرائم؟ هذا يبرهن على أننا أمام أناس تم قولبة عقولها منذ الصغر، ويستمر غسل أدمغتهم يوميا عبر وسائل الإعلام. يعتمد الجيش الصهيوني على منطقين. منطق عسكري، يعتمد على الحكاية القديمة التي تقول إنه»في حالة العجز على التغلب على ‹السمك›،يعمل الغزاة على تدمير بيئة ‹السمك› التي يعيش فيها ويتحرك داخلها»، وهذا مايفعله الجيش الصهيوني مع عائلة المقاوم الصغيرة والكبيرة، مثلا تدمير بناية كاملة وقتل جميع سكانها لأن مسؤولا فلسطينيا يتناول وجبة الإفطار مع ذويه. وتدمير أحياء بكاملها بنفس المنطق. في أحشاء هذا المنطق العسكري ووراءه الإيديولوجية التي تحدد المسموح والممنوع. وهكذا، في المنطق الصهيوني لا وجود لشيء اسمه ‹شعب فلسطيني›. «أرض بدون شعب» هو شعار يحاول الجيش الصهيوني ترجمته في الواقع. وذلك من خلال محاولة إعادة في القرن 21 ماوقع مع سكان أمريكا وأستراليا الأصليين عند استعمار القارات»الجديدة».بنفس الإيديولوجية لا ترى عيونهم أن هناك شعب بل كتلة لا تحمل حقيقة بشرية بكل معنى الكلمة. على غرار ما فعلت محكمة نورمبرك في 1945 بتحديدها جريمة جديدة في قاموس العدل ? ألا وهي ‹إبادة جنس›. اقترحت محكمة راسال الدولية (TRIBUNAL RUSSEL INTERNATIONAL)الخاصة بفلسطين إدخال في قاموس القانون الدولي الإنساني جريمة ‹إبادة مجتمع›. وغزة أسطع مثال على ما يمارس في فلسطين من جرائم منذ عقود : محاولة تدمير مجتمع + التقسيم والهدم +الاستيلاء على فضاء ووسائل الحياة (الأرض، الماء، طرق المواصلات...) + هدم البيوت (لا ننسى ماذا وقع من محو قرى بأكملها في 1948 ) + جعل الحياة اليومية جحيما (وأسطع مثال هو السجن الكبير في الهواء الطلق اسمه غزة) + الاعتقالات والاغتيالات. وبطبيعة الحال محاولة محو أي مقاومة. في منطق الصهيونية لا وجود لفلسطين كشعب أو كمجتمع. هناك كائنات ولكن صفتهم كبشر كامل الأوصاف أمر غير معترف به في الواقع، وبالتالي حقوقهم محدودة. وقتل الأطفال يصبح جائزا بل مستحب. هذا هو منطق الصهيونية. ويمكن قراءتها بالحرف في المواقع الاجتماعية التي تعبر فيها أمهات عائلة عن ابتهاجها عند تقتيل الأطفال الفلسطينيين، كما ينقله لنا السيد جدعون ليفي، الصحفي في جريدة(هآرتس). حقيقة، إن البطولة في فلسطين لا تكمن فقط في المقاتلين الذين يقاتلون ببسالة في الصف الأمامي. إن البطولة أيضا في هذا الشعب الذي تعلم من نكبة 48 أنه يجب الارتباط بالأرض دون هوادة، ومهما كلف هذا من التضحيات. في هذه الحالة، الاستشهاد يعني الادلاء بشهادة البقاء والصمود على الأرض بين النهر والبحر ، وكذلك في مخيمات المهجر. إنها شهادة أن الشعب الفلسطيني حي وله حق العيش على أرضه. فالاستشهاد بهذا المعنى هو الخبز اليومي بالنسبة لمئات الآلاف بل الملايين من الفلسطينيين الصامدين. الصمت المحيط بكل هذه الجرائم المنقطعة النظير،رغم التحركات البطيئة، التي مجرد تحركات واجتماعات وأسفار ومكالمات هاتفية، ألا يخجل العرب والعالم؟ السكوت. نعم. اسكتوا ! هذا وقت المجزرة ! عار ! عار، على مصر، هي الأولى التي تشارك مباشرة في الحصار على غزة. والعار على الأنظمة التي اكتفت بالتصريحات، مثلهم مثل الدول الغربية. لكن أخطر من ذلك هي الضغوط الممارسة على السلطة الفلسطينية كي لا تعمل على مستوى الهيئات القضائية الجنائية الدولية. إن السلطة الفلسطينية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمساعدات الدولية لضمان وجودها، أولها المساعدات التي تتوصل بها من أوروبا. وهكذا اضطرت السلطة الفلسطينية، تحت وطأة الضغوط الممارسة عليها من طرف المانحين، سحب من المحكمة الجنائية الدولية شكايتها ضد جرائم الحرب المرتكبة من طرف إسرائيل. هل سمعنا ولو صوتاعربيا رسميا واحدا اقترح أن تؤخد الحمولة المالية على عاتق الدول العربية بدل أوروبا؟ وبالتالي السماح للسلطة الفلسطينية باستقلاليتها في متابعة مجرمي الحرب؟لم نسمع قط.بمثل هذا الموقف. مرة أخرى بقي «التضامن العربي « شعارا فارغا على المستوى الرسمي. كل الحجج والأدلة متوفرة لمتابعة المجرمين. لكن السلطة الفلسطينية محرومة من استعمال أقوى سلاحها في المفاوضات الجارية حاليا، ألا وهو محاسبة الصهاينة على جرائمهم. في نفس الوقت، نسمع أوروبا تدافع عن «حق دفاع عن الذات لإسرائيل ما هو إلا» حق الدفاع عن الذات لقتلة المدنيين.وفي الأخير تبكي أوروبا بدموع التماسيح على المدنيين الفلسطينيين لكنه لاشيء على مستوى الواقع الفعلي يتبع هذه التصريحات المجانية، لا عقاب بل حتى لا ضغط على إسرائيل. عكس ما يفعلون مع موسكو... أما أوباما فلايرى خرقا لإطلاق النار عندما الجيش الصهيوني يغامر ويحاول تدمير الأنفاق بعد الإعلان على وقف إطلاق النار،لايرى الخرق إلا عندما يرد المقاتلون الفلسطينيون على المغامرين كما أن الولاياتالمتحدة استمرت في تزويد إسرائيل بالذخيرة دون توقف. أعلنت في أكثر من مناسبة وموقع عن ضرورة محاربة أي تطبيع مع إسرائيل، هل وجدت نداءاتك من يسمعها؟ أريد أن أذكر أنه سبق لحزبكم الاتحاد الاشتراكي، ولحزب الاستقلال، ولحزب التقدم والاشتراكية، ولحزب العدالة والتنمية الذي يترأس الحكومة، أن اقترحوا مشروع قانون المسمى»قانون تجريم التطبيع». بل حتى حزب الأصالة والمعاصرة قد اقترح، بعد 24 ساعة ، مشروعا هو نسخة مطابقة للمشروع الأصلي.... قبل أن يسحبه. والآن المشروع عند رئيس لجنة القانون والتشريع. لا أريد أن أدخل في عملية رياضية برلمانية بسيطة لجمع عدد الأصوات مع أو بدون أصوات حزب الأصالة والمعاصرة. ما ألاحظه هو أن المشروع مشلول حاليا ولم تحرك الأحزاب المعنية السكينة. هناك موضوع مهم جدا. وفي نظري لابد من نقاش وطني واسع بصدد هذا المشروع، يشارك فيه «المجتمع المدني» وعلى رأسه جمعيات حقوق الإنسان. لابد أن يستمر هذا النقاش الذ يبدأ علىأ عمدة الصحف وفي المواقع الاجتماعية، ويمكن تنظيم مناظرة وطنية داخل بناية السلطة التشريعية قبل أن يبدأ البرلمان عمله في الموضوع. ولا بد أن يشارك أيضا في هذه المناظرة الاختصاصيون في القانون الدولي. وعلى أساس هذا النقاش الوطني الواسع، سيسهل للبرلمانيين تعديل المشروع الحالي الذي له بعض نقط الضعف (في نظري) والتصويت على المشروع المعدل. سيمكن هذا المشروع المغرب من ممارسة سيادته الوطنية بقرار قطع كل العلاقات مع دولة مجرمة مهما كانت. والإجرام بقياس القانون الإنساني الدولي. في جبال احتفاظ لهذا القانون بطابعه الكوني، وبالتالي تعديل مشروع القانون الحالي في هذا الاتجاه. وسيكون الكيان الصهيوني أول مرشح لتطبيق هذا القانون عليه. كما أنه يمكن أن تكفي العقوبات الاقتصادية والغرامات لردع خارقي هذا القانون. إن هذا القانون سيقرر عدم منح تأشيرات الدخول إلى المغرب لمجرمي الحرب من أي دولة آتوا، بدون تمييز، أكانوا يملكون جوازات إسرائيلية أو غيرها. وهكذا مثلا، فيما يخص أصحاب جوازات السفر الإسرائيلية عاجزين على البرهان على أنهم لم يعملوا في الخدمة العسكرية، ولم يشاركوا في أية حرب كاحتياطيين، بعبارة أخرى البرهان على أنهم ليسوا مجرمي حرب، والعاجزون على الإدلاء ببراهين مقنعة لايمكنهم الحصول على التأشيرة. وهكذا، فلسطينيو 48 ذوو جواز السفر الإسرائيلي لن يحرموا،دون تمييز. لأنهم لايشاركوا في جيش الاحتلال. ماهي أهداف إسرائيل؟ إذ يبدو أنها تتصرف بجنون ودون حساب. يمكن القول إن هيتلر كان مجنونا، ويمكن قول نفس الشيء عن إسرائيل اليوم. لكننا نحن خارج ميدان الطب النفسي. من جهة، على المستوى العام، هناك منطق الصهيونية الذي يؤدي إلى نفي كل حقوق الشعب الفلسطيني إلى ما سبق ذكره. هدف إسرائيل الاستراتيجي يبقى الخط العام : المزيد من الضغط لإسكات المقاومة الفلسطينية ولو أدى ذلك إلى خطوات «حمقاء» . وأيضا هناك بعض الحسابات السياسية الضيقة، حيث يحتاج نتانياهو(ويسهر) على الحفاظ على حلفائه في أقصى طرف الخريطة السياسية. كذلك هناك حسابات انتخابية ظرفية. كلها حسابات قصيرة الأمد. لكن لابد من تسجيل أن السلطة التنفيذية الصهيونية مستندة على الرأي العام. نحن بصدد بلد فيه قولبة مبكرة للعقول وأصبح الآن بلدا فاشيا بكل معنى الكلمة، ودون قناع، مثلما كان المجتمع النازي. واحتمال تحقيق التغيير من الداخل من طرف قوى سلمية أمر مستبعد جدا. الحركة السلمية الحالية (الحقيقية) مكونة من الناس الذين تحرروا بدرجات متفاوتة من الصهيونية، وهم أقلية. أما الأغلبية فهي في طريق المزيد من التطرف. من أين سيأتي التغيير؟ في المدى المنظور لا يتصور المرء انتصارا عسكريا مثلما وقع على النازية في الحرب العالمية الثانية، خصوصا أن الفلسطينيين لايمكنهم الاعتماد على أي قوة نظامية عربية. إن احتياط القضية الفلسطينية الاستراتيجي يكمن في معركة الرأي العام العالمي العظيمة وتمكن الشعب الفلسطيني من اكتساب مواقع جديدة، وبالخصوص في حركة المقاطعة العالمية (والعرب فيها لايزالون متأخرين...).ففي هذه المعركة، إن الضغط على الفلسطينيين للتخلي على معركة العدالة الدولية يجب أن يوازيه ضغط مضاد أقوى للمجتمعات على سلطاتها في الاتجاه المعاكس. لقد دخلنا في مسار شبيه بما سبق أن وقع في المعركة العالمية التي ساهمت بشكل حاسم في الانتصار على الميز العنصري في جنوب إفريقيا. مقاطعة المنتجات والسلع الإسرائيلية هل هو أمر مؤثر على اقتصاد هذا الكيان المتوحش؟ جوابا على سؤالكم، أقترح للتأمل الملاحظة التالية : في خطابه أمام ال»أيباك»، وهو الطابور الصهيوني الذي يعمل في الولاياتالمتحدة لتعبئة الدعم الأمريكي لإسرائيل ? بما فيها المالي والإعلامي،و... - ،خصص نتنياهو أكثر من ربع كلماته ووقته لتفسير أن المقاطعة لا تساوي شيئا. واضطر ، دون وعي ربما، للنطق بكلمة «المقاطعة» 17 المرة وبكلمة BDSثمان مرات. وأضيف: لقد أعطت السلطات الإسرائيلية نفسها جوابها في هذاالموضوع. قبل بضعة شهور كان موضوع المقاطعة من اختصاص الشؤون الخارجية ، كما لو أنه مسألة ثقافية سياسية (؟). واليوم فالمصلحة الإدارية المكلفة بموضوع المقاطعة أصبحت تتابعة وزارة الشؤون الاستراتيجية. بالفعل فحركة سحب الاستثمارات تزداد يوما عن يوم هنا اعطي مثالا: بعد المؤسسات المالية لبلدان الاسكندنافية في شمال أوروبا، فأكبر بنك ألماني(DEUTSCHE BANK)،وأكبر بنك دانماركي(DANSKE BANK)، سحبا أموالهما من›بنك هابو عاليم› الصهيوني لانخراطه في تمويل الاستيطان . هل هذاحبا في الشعب الفلسطيني فقط أو خوفا من تهمة المشاركة في جريمة حرب ؟ حيث الاستيطان في معاهد اتجينيفاجريمةحرب. زيادة على أن صورة إسرائيل في الرأي العام العالمي تزداد سوءا يوما بعد يوم وزاد الاعتداء على غزة في إسقاط القناع. مارأيك في موقف بعض دول أميركا اللاتينية التي أعلنت صراحة أن إسرائيل دولة إرهابية؟ هذا من المكتسبات المهمة في طريق تصاعد مد المقاطعة الاقتصادية. كم تمنيت لو كان المغرب سباقا في نفس الطريق ويسرع في إصدار القوانين الكفيلة بتنظيم بمقاطعة على جميع الأصعدة بما فيها الاقتصادية والسياسية والديبلوماسية، والعسكرية، والأكاديمية، والثقافية، والرياضية... ماذا ربحت غزة من الحرب الأخيرة؟ ماذا خسرت إسرائيل؟ إن الرهان الرئيسي لمعركة المقاتلين كان لإثبات أن «إسرائيل» غير قادرة على تحقيق هدفها الرئيسي المعلن :»محو المقاومة من الخريطة»... هل سترفع إسرائيل الحصار؟ لم تنته معركة رفع الحصار بعد... لكن معركة المشروعية الدولية في الرأي العام العالمي خسرت فيها «إسرائيل» الكثير. من كان يتصورأنه سترفع جماعات محلية في اسكتلاندا الأعلام الفلسطينية على المباني الرسمية تضامنا مع مقاومة غزة؟ وكذلك موقف مجلس الجماعة الحضرية لمدينةإشبيليا. لقد دفع الشعب الفلسطيني ثمنا باهظا على هذه المكتسبات... لكنها خطوات جبارة على تحقيقها لانتصار في سبيل تقرير مصيره على أرضه.