بادرت قناة الجزيرة يوما ما إلى إطلاق خطوة متميزة في مجال الإعلام العربي والتواصل الجماهيري، بتوجيه نشراتها الإخبارية إلى المغرب العربي انطلاقا من الرباط. وكانت تلك النشرة مبادرة متميزة ومشكورة أحدثت منعطفا جديدا في تواصل المغاربة مع العالم العربي بشكل خاص. "" لم أكن حينئذ بعيدا عن مقاربة وقائع إعلام الجزيرة من منظور نقدي مواكب، كما لم أكن بعيدا عن ملاحظة "اصطناع" لائحة من "الخبراء والمحللين" السياسيين والاقتصاديين المغاربة والمغاربيين. ولأنني مغربي متابع للشؤون والقضايا الفكرية والسياسية، فقد كنت أستغرب أحيانا من تقديم بعض الأسماء على أنهم خبراء بالحركات الإسلامية وبتنظيم القاعدة في المغرب العربي وشمال إفريقيا.. وكان الخبراء يجتهدون في بلورة آراء وتصورات ممعنة في الغباء والطوباوية. والحقيقة أنني لا أعمم حكمي هذا على كل المتعاملين مع الجزيرة، ولا على كل من استدعته إلى مكتبها في الرباط، أو استضافته من الدوحة عبر الأقمار الصناعية. وممن لا تشمله مقالتي هذه الباحث المتميز محمد ضريف. اليوم، أصبح ألمي مزدوجا بخصوص عمل قناة الجزيرة في المغرب: فمن جهة أولى، أتألم من الظلم الواقع على القناة وموظفيها ومراسليها، انسجاما مع موقفي الحقوقي والسياسي الداعي إلى إطلاق الحريات لأصحاب مهنة المتاعب استهدافا للحق في الوصول إلى الخبر وتعميم الخبر؛ ومن جهة ثانية، أتألم من جراء فقد "الخبراء والمحللين" لمناصبهم بين يدي جمهور الجزيرة، وخاصة في المغرب، مع العلم أن السادة الكرام يظهرون في شاشات رسمية مرارا. لست قطعا ضد "اصطناع" الجزيرة لائحة محلليها وخبرائها مثلما هي حرة في اختيار مراسليها وموظفيها. ولست قطعا ضد اختيار القناة بنود استراتيجيتها الإعلامية، في الدوحة أو الرباط. لكنني أملك قطعا نصيبا معتبرا وحقا محسوما في متابعة أدائها الإعلامي السياسي، من زاوية نظر مخالفة. لقد عبرت في مناسبات سابقة عن موقفي من سياستها التحريرية، كما عبر الكثيرون في مختلف أنحاء العالم. وكان من بين محاور ذلك الموقف، حرص القناة على تبني أطروحة المخزن المغربي إزاء بعض القضايا الداخلية، ومن أبرز عناصرها تسمية جماعة العدل والإحسان بكونها جماعة محظورة، واستبعاد كثير من رموزها من "لائحة الخبراء والمحللين"، مقابل استدعائهم أحيانا لتنويع الآراء من جهة والتعبير عن مواقفهم الدفاعية إزاء التضييق الذي تواجهه حركتهم السياسية. لم تسائل الجزيرة نفسها عن نوع "الحظر" الذي تتمتع به جماعة العدل والإحسان، وكأنها لاتملك جيشا من الخبراء والمستشارين القانونيين والسياسيين في الدوحة وغيرها. ولنأخذ مثال سامي الحاج -الذي أفرحنا خروجه من المعتقل السيء الذكر- إذ عملت القناة منذ سنوات على حشد الآراء القانونية والحقوقية التي تثبت عدم شرعية الاعتقال. لم تتبحر القناة في ملفات سياسية نتنة في تاريخ المغرب المعاصر، كما هو شأن ملف شركة النجاة التي تورط فيها الوزير الأول عباس الفاسي، إذ صمتت القناة منذ أن غضب السيد الوزير غضبته الشهيرة قبيل بدء الانتخابات التشريعية السابقة. لم تكلف النشرة المغاربية نفسها عناء تفحص ملف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وأهم الفصائل الطلابية الناشطة فيه، بل ظلت تستبعد محاورة مسؤوليه ومسيريه حفاظا على "راحة" السلطات المغربية. أدركت حينها أن القناة تزاوج طبعا بين الإعلامي والسياسي في لعبة كبرى لها أدمغتها وعباقرتها، وراء عبارة إيديولوجية مسكوكة في خطابها الإعلامي: الرأي والرأي الآخر. والحقيقة أن نسبة "الآخر" في التعبير ليست عالية الحضور والفعالية. ويبدو أن الخاسر الأكبر فيما جرى ويجري الآن، ليس يتامى الجزيرة في المغرب (وهم خبراؤها ومحللوها)، وليس المعارض السياسي المحظور، وإنما الخاسر الأكبر هو هذا البلد المنكوب في تاريخه وحاضره ونخبته. ولله الأمر من قبل ومن بعد. زكرياء السرتي -كاتب باحث