"جامعة المستقبل" ليس مجرد كتاب فكري أو تأمل نظري، بل إنه خارطة طريق لكيفية الارتقاء بالتعليم العالي في البلدان المغاربية، أخذاً بعين الاعتبار التحولات التي يشهدها مجال البحث والابتكار على المستوى الدولي، وكذلك بتفاعلات العولمة ومجتمع المعرفة. وجاء إصدار هذا الكتاب، من لدن مؤلفه الدكتور حفيظ بوطالب جوطي (الصورة)، ثمرة حوالي أربعة عقود من الاشتغال الدؤوب في المنظومة المغربية للتعليم العالي والبحث العلمي، ممارسة ومسؤولية على كافة مستوياتها واختلاف تسلسلها؛ بالإضافة إلى احتكاك الخبير المذكور وتفاعله المستمر مع منظومات أجنبية حول العالم. يلاحظ المؤلف أن الاهتمام المتنامي بمنظومات التعليم العالي والبحث والابتكار على المستوى العالمي، نابع من مدى تأثير بعضها في التحولات الأساسية المؤدية إلى العولمة، وفي خلق الثروات، وابتكار وسائل وطرق وتشكيلات جديدة تعطي اقتصاديات الدول التي تملك تلك المنظومات تنافسية رائدة. ويسعى الدكتور حفيظ بوطالب جوطي في كتابه الجديد إلى الإجابة على أسئلة تتعلق بصيغ ودرجات الاستقلال الذاتي التي يجب أن تتمتع به تلك منظومات التعليم العالي، وأيضا تسلسل اتخاذ القرار داخلها، ومستوى استثمار الدول ووسائل اعتماد تمويل متنوع يسمح بتدخل كل الفاعلين في الحقل الجامعي، وكيفية تنظيم البحث ومختلف هياكل تثمينه وعلاقته بالمقاولات المبتكرة. ويستدل المؤلف في هذا الصدد بتجارب دول رائدة في نوع معين من المقاربات أو من الإصلاحات كالولاياتالمتحدةالأمريكية وكندا وفرنسا والمملكة المتحدة وأيرلندة واليابان والصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة وهونغ كونغ وتايوان ودول الخليج وأستراليا ونيوزيلندا. ويطرح الكاتب العلامات المميزة لعولمة التعليم العالي، المتمثلة في تسارع وتيرة نمو التعليم العابر للحدود، وانتشار مجمعات جهوية للتكوين، وتعدد المستثمرين في هذا القطاع، ووجود نظام للبحث والابتكار عالِ "وحشي" التنافسية على المستوى الدولي. ويلاحظ بهذا الخصوص انطلاقَ تنافسية معولمة بين الدول المتقدمة والنامية لجذب الطلبة المتنقلين على المستوى الدولي، بعد أن استثمرت تلك الدول في تحسين منظومتها في التعليم العالي، مما أدى إلى بروز منافسين جدد في سوق تسيطر عليها الولاياتالمتحدةالأمريكية ومجموعة من الدول، غالبيتها ناطقة باللغة الانجليزية. ويؤكد الدكتور بوطالب جوطي أن التفاعل بين العولمة من جهة وبين منظومات التعليم العالي والبحث الابتكار من جهة ثانية، هو الذي يميز التحولات التي نشهدها حاليا، والتي تؤثر لا محالة وإلى حد كبير في مستقبل الإنسانية جمعاء؛ لافتاً الانتباه إلى أن الاقتصاد العالمي ومنظومات التعليم العالي والبحث والابتكار أصبح طرفيْ معادلة، يتأثر كل منهما بالآخر، "فلا اقتصادَ عالمياً متطوراً بدون منظومات تعليم عال وبحث وابتكار قوية، ولا منظومة تعليم عال وبحث وابتكار فعالة بدون استثمار هام"، مثلما يشدد على ذلك الكاتب. ويخصص أجزاء هامة كتابه الجديد لبسط تصوره الاستشرافي الجامعة المغاربية، من أجل تأهيلها لمجابهة التحديات المستقبلية، مقترحاً مجموعة آليات من ضمنها: إيصال بعض الجامعات المغاربية إلى الدرجة الجهوية وتهييئها للوصول إلى الدرجة العالمية، وإحداث أقطاب جامعية تنافسية، وإنشاء حرم جامعي (بالمعنى الفعلي) لكل جامعة، وإصدار تشريعات تخص شروط فتح جامعات أو فروح لجامعات أجنبية، حتى تُؤمَّن حقوق الطلبة وأوليائهم، وإحداث "فضاء مغاربي للتعليم العالي والبحث العلمي" يمكن أن يكون مكملا للفضاء الأوربي وصلة وصل لفضاء أوسع أورومتوسطي. ولتطبيق مقتضيات هذا الورش المؤسس لعلاقات جديدة على المستوى المغاربي، يدعو الدكتور بوطالب جوطي إلى تأسيس هيأة مغاربية للتعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، ووكالة مغاربية للبحث والابتكار لتمويل مشاريع البحث الكبرى المشتركة. ويستعرض المؤلف المهام التي يمكن أن تقوم بها بها تلك الهيأة على النحو التالي: تطوير أوجه الاستقلال الذاتي للجامعات من إداري ومالي وتربوي وعلمي وأكاديمي وثقافي. ضمان وتطوير الجودة في مؤسسات التعليم العالي وفي البرامج الجامعية. تشجيع قيام شراكات بين الجامعات والمقاولات وبينها وبين المؤسسات الحكومية الأخرى للبحث. تشجيع وتطوير تثمين أعمال البحث في المنطقة المغاربية لبناء مزيتها التنافسية. تشجيع ودعم نشر نتائج الأبحاث والابتكارات الجديدة وتفعيل أنشطة الإعلام والاتصال. تشجيع تعميم استعمال تكنولوجيا الإعلام والاتصال في كل مؤسسات التعليم العالي. ويقول المؤلف إن إحداث فضاء مغاربي للتعليم العالي والبحث العلمي من شأنه أن يسمح للجامعات المغاربية بالعمل في إطار شبكات متطورة، تعطي الفرصة للطالب التونسي مثلا لاستكمال دراسته في المغرب، وبدء أبحاثه في الجزائر، وللطالب المغربي استكمال دراسته في الجزائر واكتساب تجربته في ليبيا أو في موريتانيا؛ مما سيخلق روابط جديدة اجتماعية وأسرية، ويؤسس لعلاقات قوية داخل المجتمعات المغاربية، يمكنها أن تفضي إلى اتحاد مغاربي وسياسي قوي ومتماسك. كما يعتبر الكاتب أن الارتكاز على العمل الأكاديمي والعلمي والثقافي يمكّن من بناء بنيان قادر على مواجهة تحديات البناء الاقتصادي والسياسي، في الوقت الذي أبان فيه البناء الاقتصادي عن حدوده السياسية في الاتحاد الأوربي، على حد تعبيره. ويختم المؤلف كتابه الواقع في 200 صفحة من القطع المتوسط بالقول: "ليس ما نطمح إليه حلماً بعيد المنال. إنه يؤسس لحلم أكبر وفضاء أوسع. فعِمْ صباحاً يا فضاء العلم والمعرفة، وانشُرْ ظلالك الوارفة على كل طالب لودّك، واهدِ كبار مسؤولينا بنور علمك، واختمْ على قلوبهم بالمحبة والسلم والوئام." تبقى الإشارة إلى أن حفيظ بوطالب حائز على دكتوراه دولة من جامعة باريس الجنوبية في فيزياء الطاقات العالمية، وعمل رئيسا لجامعة محمد الخامس أكدال في الرباط؛ بالإضافة إلى اشتغاله أستاذا للتعليم العالي بكلية العلوم. [email protected]