تعود الجميع من مسؤولين كبار وأفراد عاديين في المغرب وفي عديد من الدول السائرة في طريق النمو على اعتبار أن الدور التقليدي للجامعة يتحدد فقط في التعليم والتكوين ذي الجودة العالية والبحث العلمي القوي المساهم في إغناء المعرفة الإنسانية. لكن حتى هذا الدور بات محط شك عند الكثيرين، مما جعلهم يرون فيها مجرد مختبر لتفريخ العطالة فقط . وهذا ما يدفع إلى التساؤل عن مستقبلها والدور الذي يمكن أن تقوم به. حفيظ بوطالب جوطي في كتابه الجديد يرى أن هذا الدور لم يعد من استراتجيات العصر الحالي، بل تعداه ليشمل المساهمة المباشرة في النمو الاقتصادي والاجتماعي، أو بمعنى آخر لعب دور قاطرة التنمية المستدامة.فالتعليم في الدول المتقدمة أصبح شريكا وفاعلا في اقتصادياتها، ويشير الكاتب هنا إلى تجارب دولية مهمة في العالم تمكن فيها التعليم العالي والبحث والابتكار بأن يتفاعل مع التطورات والعولمة المالية ويجد حلولا لأزماتها الدورية. لكن ذلك لن يتأتى إلا بالاستقلال الذاتي والمالي للجامعة، مع العلم أن المساهمة المالية للقطاعات الصناعية في أنشطة البحث والتنمية والابتكار التكنولوجي تبقى ضئيلة جدا وبعيدة عن الصورة المتوازنة في الدول المتقدمة. يسعى حفيظ بوطالب جوطي في كتابه «جامعة المستقبل» الصادر عن دار توبقال للنشر إلى الإجابة عن أسئلة لا يطرحها السياسيون فقط عن منظومات التعليم العالي والبحث والابتكار، بل يشاركهم فيها كذلك مهتمون آخرون من أولياء الطلبة وأسرهم. وتتعلق هذه الأسئلة بالاستقلال الذاتي الواجب أن تتمتع به تلك المنظومات، وكذلك تسلسل اتخاذ القرار داخلها، ومستوى استثمار الدول، والاعتماد على تمويل متنوع يسمح بتدخل الفاعلين في الحقل الجامعي.وإلى جانب ذلك يسعى الكتاب إلى الإجابة عن كيفية تنظيم البحث ومختلف هياكله، وعلاقته بالمقاولات المبتكرة، وسياسة الموقع، ومنظورية مؤسسات التعليم العالي على المستويات المحلية والجهوية والعالمية.فالمرحلة، حسب المؤلف، مواتية أمام الجامعة للاستفادة من التحولات التي بات يعرفها العالم، مما يجعل من الجامعة مساهما أساسيا في تفعيل الاقتصاد والاستفادة منه. فالعولمة ومجتمع المعرفة وثقافة البحث والابتكار والأقطاب الترابية كلها، كما يذكر جوطي، ظواهر تكتشف الجامعة في صلبها مجالات جديدة للتحرك ومهام يقر الكل بمركزيتها. ويرى الكاتب أن المعول عليه هو أن يفهم لماذا وكيف يمكن للجامعة أن تلعب دورها في خلق الثروات وربح مزايا تنافسية جديدة. فإذا تأخرت الجامعة، يضيف حفيظ بوطالب جوطي، عن هذا فإنها لن تتأزم وحدها، بل إن المجتمع برمته سيتأزم من حيث ضياع الفرصة بالنسبة للطلبة وانتقاء قابلية الابتكار وتقلص الآفاق الاقتصادية، بل مجموع قدراتها، على التفاعل والتنافس مع غيرها في المستقبل. إن المؤلف في كتابه هذا ينبه إلى أهمية الاهتمام بالجامعة كفاعل اقتصادي مهم، في حال ما تحقق لها الاستقلال الذاتي في ميزانيته وقراراته. في هذا الإطار يشير الكاتب إلى تجارب دولية مهمة في العالم تمكنت بأن تتفاعل مع التطورات، بل أكثر من ذلك كانت محركا في فتح آفاق جديدة في وقت تهدد الأزمة الاقتصادية كافة الدول بشكل دوري. ويضيف الكاتب أنه لن يكون غريبا الاهتمام المتزايد بالجامعة ودورها الفاعل في المستقبل لدرجة جعلت منها وسائل الإعلام العالمية موضوعا من مواضيعها الأثيرة التي يدلي المهتمون بدلوهم فيها، بل إن برامج السياسيين تناقش، بإسهاب، حجم الاستثمارات في هذا المجال. يقول جوطي: «إن المتصفح للجرائد الدولي ك»لوموند» الفرنسية و»الهيرالد تريبيون» الأمريكية ومجلة «التايم» الإنجليزية، على سبيل المثال، سيفاجئه تعدد المواضيع التي تتناول يوميا قضايا منظومات التعليم العالي والبحث والابتكار، سواء منها ما يتعلق بترتيب الجامعات أو المقاربات المختلفة للحكومات لهذا القطاع، أو بالاستثمارات فيه، رغم الأزمة المالية العالمية، أو برسوم التسجيل وما تحدثه من رجات في الشارع». ويضيف «بل حتى النقاشات السياسية بين المرشحين لرئاسة بعض الدول، كالولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا، لا تخلو من برامج تتعرض بإسهاب لحجم الاستثمارات ومجموعة الإصلاحات التي يجب أن تطور هذا القطاع» . وهذا الاهتمام المتزايد بالتعليم العالي والبحث والابتكار نابع من تأثير بعضها في التحولات الأساسية القائدة نحو العولمة. وأيضا خلق الثروات، وابتكار وسائل وحلول جديدة تضخ في اقتصاديات الدول المتوفرة على تلك المنظومات مكانة تنافسية رائدة». تغيير الاستراتيجيات الدور التقليدي للجامعة المتعلق فقط بالتعليم والتكوين ذي الجودة العالية والبحث العلمي القوي المساهم في إغناء المعرفة الإنسانية لم يعد من استراتجيات العصر الحالي، بل تعداه ليشمل المساهمة المباشرة في النمو الاقتصادي والاجتماعي، أو بمعنى آخر لعب دور قاطرة التنمية المستدامة.يقول المؤلف متحدثا عن دور الجامعة ومهامها الجديدة: «هكذا طورت الجامعة مهام جديدة كالتكوين المستمر على كافة أشكاله (بالحضور أو عن بعد، داخل نفس الحدود أو عابر للحدود، تعليم مباشر أو تعليم الكتروني)، والبحث التعاقدي والاستشارة والخبرة والابتكار وإحداث المقاولات، أو المساهمة فيها وإقامة شراكات لاستثمار نتائج البحث والبراءات والمشاركة في عمليات ثلاثية (جامعة ودولة أو جماعات ترابية وقطاع خاص) من أجل إحداث مقاولات عن طريق محاضن أو منابت للمقاولات ومجتمعات تكنولوجية ومراكز للبحث والتنمية ومراكز لنقل التكنولوجيا» جعل الجامعة تلعب دورها المستقبلي في تحريك الاقتصاد وخلق فرص التنمية وكسب الثروات يجب أن توازيه تغيرات في مستويات تقليدية في التسيير والبرامج والاستقلال المالي واتخاذ القرارات. ففي مجال تدبير الموارد فالمقاربة الحديثة تستدعي أن تتمكن الجامعات من اختيار أنظمة التشغيل ومستوى وقيمة الأجور ووسائل توظيف الأساتذة والموظفين ومجالات تخصصاتهم وحجم التوظيفات التي تقوم بها. وهذا يتم كله تحت مراقبة مجالسها الإدارية، بعد استطلاع آراء لجنتها العلمية. وهذا- يقول جوطي- أحد الأوجه البارزة للاستقلال الإداري للجامعة. ومن ثم يرى الكاتب أن النظام الحالي في بعض الدول (الدول المغاربية) غريب، لأنه نظام تؤدى فيه أجور العاملين في الجامعة من طرف وزارة التربية الوطنية. كما أن المناصب المالية تقرر على المستوى الوطني. لكن الاستقلال الإداري ليس هو كل شيء، بل لابد أن يوازيه استقلال مالي واستقلال علمي واستقلال تربوي واستقلال أكاديمي واستقلال ثقافي. وفي سعي للإجابة التي تؤرق جميع مكونات المجمع، لا يتوقف الكاتب عن معالجة دور الجامعة في زمن العولمة وتحريكها لتكون الفاعل الأساس، بل يمتد إلى علاقاتها مع التعليم الثانوي، وخلق الحكامة الجيدة وانفتاحها، وأيضا وجود وعي جيد بمدى أهمية الجامعة يجعل المسؤولين الكبار والمواطنين العاديين، على حد سواء، يفتخرون ويتباهون بجامعاتهم. لكن المؤلف يرى أن ضعف قطاع الصناعات المتطورة في البلدان النامية لا يسمح لمنظومة التعليم العالي والابتكار بأن تلعب الدور المهم الذي تلعبه في الدول المتقدمة. فالمساهمة المالية للقطاعات الصناعية في أنشطة البحث والتنمية والابتكار التكنولوجي ضئيلة جدا وبعيدة عن الصورة المتوازنة في الدول المتقدمة. فهل تجعل الأزمات الاقتصادية وتحديات العولمة الدول النامية والسائرة في طريق النمو تعيد تصورها للدور الذي يجب أن تلعبه الجامعة؟ ثلاثة مستويات تظهر أهمية الاستثمار بالنسبة للدكتور جوطي في منظومة التعليم العالي والبحث والابتكار في مستويات ثلاثة: أولها هو المتعلق بخلق الثروات وربح مزايا تنافسية جديدة تقود إلى ازدهار اقتصاديات الدول، عن طريق تحويل أصحاب التأهيل إلى فاعلين في الابتكار والانتقال التكنولوجي في تخصصات وبرامج جديدة، داخل تجمعات صناعية-جامعية. وبالنسبة للمستوى الثاني فيتعلق بتنمية الاقتصاد مباشرة من خلال المستوى الأول، أو عبر طريق غير مباشر يتمثل في تحويل الأشخاص إلى مساهمين أساسيين في تكوين البنيات التحتية القانونية والجبائية والاجتماعية الضرورية لاقتصاد مزدهر، في ظل التحول الذي طرأ على التعليم العالي، حيث أصبح قطاعا خدماتيا يلعب دورا مهما في اقتصاديات عدد من البلدان . أما بالنسبة للمستوى الذي يمكن الاستثمار فيه، حسب جوطي دائما، فهو الحد من الأزمات المالية العالمية التي يتوقع أن تهز عرش العالم من وقت لآخر، إذا لم تبتكر آليات جديدة للتحكم في العولمة المالية. وهذا لن يتأتى إلا بتكوين الأطر الكفأة والبحث عن سبل وحلول ناجعة للأزمات. وفي هذا السياق يقول المؤلف: «يسمح الوقوف عند آثار الأزمة المالية العالمية على منظومات التعليم العالي والبحث والابتكار، فهما أعمق لتلك المعادلة» ويسوق في هذا الإطار ثلاثة أمثلة: «مثال الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي تحتل جامعات البحث فيها أكثر من خمسين في المائة من المراتب الأولى العالمية في جميع الترتيبات العالمية، وإيرلندا التي كانت تدعى «التنين السلتي»، في إشارة إلى النمو المتسارع الذي عرفته أغلب دول جنوب شرق آسيا، والبرازيل، التي واجهت الأزمة العالمية ببرنامج مهم» . واعتمادا على هذه الأمثلة يوضح المؤلف إلى أي مدى يمكن أن يكون التعليم العالي والبحث والابتكار منقذا من الوقوع في الأزمات. وعلى ضوء ذلك يرى جوطي أن الدور المركزي الذي غدا يتمتع به التعليم العالي والبحث والابتكار أصبح يفرض تعاملا جديدا ومقاربة مختلفة تساهم في أن يلعب دورا رياديا في المستقبل ويكون رافعة قوية في اقتصاديات الدول، ومن ثم يصبح الجميع، مسؤولين كبارا وأفرادا عاديين، يفتخرون بجامعاتهم . لكن هذا الدور يفرض، حسب المؤلف، «مقاربة جديدة لمجموعة من المفاهيم الأساسية لهذه المنظومات بهدف تساكن التضاد: الإصلاح واستقرار المنظومة، التعليم العالي والبحث، البحث والابتكار، الجودة والامتياز، الدمقرطة والانتقاء، رسوم التسجيل والمجانية. وصولا، في الأخير، إلى رسم خطوط منظومة إدماجية معولمة عوض المنظومة الحصرية الحالية السائدة في مجموعة من الدول» . والمهام الجديدة للجامعة تستدعي بناء مجتمع المعرفة والشراكات الجديدة وهياكل تثمين البحث والتكوين المستمر. وهذه كلها مهام ترسخ دور الجامعة المركزي في مجتمع المعرفة وفي بناء التنافسية. ولكن هذه التحديات تبقى بالطبع كبرى في فضاء عولمة التعليم العالي التي تستدعي إيصال جامعاتنا إلى درجة الجهوية ثم تهيئها للعالمية. كما تتمثل- يضيف المؤلف- في إحداث أقطاب جامعية تنافسية، وإنشاء حرم جامعي، بالمعنى الفعلي، لكل جامعة، وفي إصدار مجموعة من التشريعات تخص شروط فتح جامعات أو فروع لجامعات أجنبية، حتى يتم تأمين حقوق الطلبة وأوليائهم.