أسباب النزول أخبر وزير الأوقاف الرأي العام بزيادة تعويضات للسادة العلماء أعضاء ورؤساء المجالس العلمية ببركة مقدارها ثلاثة آلاف درهم لرؤساء المجالس وأعضاء المجلس العلمي الأعلى، وألفا درهم للعضو في المجلس المحلي دون نصب ولا وصب، زياد ة أغيض بها كل من تظاهر ضد الوزير من الفقهاء والدعاة، أو عبّر عن رأي مخالف للوجهة التي سعى لانتهاجها ملاءمة لما اختطه العم سام من إبدال منهج أهل السنة والجماعة التي درجت عليه الأمة المغربية بمنهج التصوف الذي يتركز على التخلي قبل التحلي، وهو الذي جابه الغزو الفرنسي بالبلاد فلم يجن من ورائه طائل، بدليل أن المقاومة كانت تخرج من الزوايا والمساجد، وأن شيوخ التصوف كانوا يقولون اعرضوا أمرنا على الكتاب والسنة، فما وافقهما فهو طريقنا. ولذلك أجمع المغاربة على دعاء: "وأمتنا على السنة والجماعة"، وعليه فلا غرابة أن تثير هذه الإكرامية الريبة؛ خاصة في زمن يتسم بشح الموارد، والحديث عن وقف نزيف الريع، ومنه الريع الديني، ورفع شعار: "لا تدبير إلا بقانون/ ولا قانون إلا لحاجة مجمع عليها"، فكيف يخرج وزير في حكومة يعلن زيادة لمرؤوسيه بألفين وثلاثة والناس يتظاهرون على الحصول فقط على الوعد بتثبيت الأسعار؟ صحيح أن الوزير صرح بأن الزيادة لن تكلف الحكومة لأنها مقتطعة من ميزانية المجلس العلمي الأعلى، وهي ثالثة الأثافي؛ لأنها تطرح مسألة من أين للمجلس الأعلى بذلك الفائض المالي الذي سيغطي به هذا الالتزام الذي يقارب المليار سنويا؟ هذا مع عدم إدخال أعضاء الفروع المحلية والرابطة وإلا لأصبح الحديث عن حوالي مليارين؛ ومعلوم أن المجلس غير منتج للثروة حتى يأخذ من ريعها، ولا هو من الموصى لهم في الأوقاف، ولا جامعا للصدقات والزكاة، ولا هو صندوقا استثماريا؛ بل أعضاءه غير موظفين بصفاتهم في أسلاك الدولة، وإن كانوا كذلك فبمهنهم، لأن الاندراج في المجلس أصله تطوع، لكن الرغبة في السيطرة عليهم جعلت الوزارة تضرب بطونهم لتخرص أفواههم!! ثم ما موقف الحكومة من هذه البدعة المبتكرة في الاستفراد بقطاع الأوقاف الإسلامية في ظل حكومة منتخبة؟ فهل عفاريتها مستعصية على خاتم حكمة رئيس الحكومة؟ وهل وزارتها مرتدية طاقية الإخفاء بحيث لا يراها سيادته وهو داخل خارج لمكتبه؟ أم أنها خارجة دائرة اختصاصه؛ متمتعة بالاستقلال الذاتي والمالي لذلك لم يعين وزيرها، وبالتالي فإن مواءمة الزيادة مع قانون المالية تطلب مصادقة الحكومة على ما أمر به وزير الأوقاف في اجتماعها يوم 21-2-2013م!! لقد سمع كثيرا عن كنوز الأوقاف وعقاراتها، وما ظن أحد أن المجلس العلمي التابع لها نابه نصيب من بركتها، اللهم إلا إذا كان سادتنا العلماء يقضون أوقاتهم في استخراج الكنوز المدفونة فكوفئوا منها، والجدير بالذكر أن قصة أخذ القرويين رهينة في دين، كان قد اقترح على السلطان مولاي عبد الحفيظ من قبل أحد الانجليز لتحديث البلاد، تحدثت عنه الصحف وقتها؛ إلا أن الفرنسيين استولوا على البلاد كلها وتصرفوا فيها وفي أوقافها، ولم يتركوا للمجلس الأعلى للأوقاف الفرصة لمراقبتها مثلما هو الآن حيث أعيد إحياء ذلك المجلس إلا أنه ما زال في العدم، وإليكم القصة كما روتها مجلة "المقتطف" المصرية في الجزء:52 يناير 1918م: نص المقالة: "وقفنا على مقالة بديعة للمستر "اشحد بارتك" الكاتب الإنكليزي، نشرها في مجلة "ستراند"؛ ذكر فيها بعضا من المفاهيم عن مشاهير الأنام، ومنهم مولاي عبد الحفيظ سلطان المغرب الأقصى قال: "كنت جالسًا في غرفتي ذات ليلة من ليالي شهر يونيو الحارّة سنة 1907م، وإذا بالباب يطرق، فلما فتحته رأيت أمامي رجلاً لم تقع عيني عليه منذ ثلاث سنوات، وآخر مرة رأيته فيها كان في "يوكاها" ببلاد اليابان زمن الحرب الروسية اليابانية. وهو من الأفاقين الذين لا يعرف ماضيهم ولا يوثق بمستقبلهم، فقص علي سبب زيارته بعد أن وثق مني بكتمان سره، قال: "أنت الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يساعدني، فقد أتيت من المغرب الأقصى؛ البلاد كثيرة الخيرات جدا، والحال فيها فوضي الآن، فإن سلطانها عبد العزيز غادر مدينة فاس وأقام في طنجة، وقام أخوه عبد الحفيظ وادعى الملك، وهو ذاهب الآن إلى فاس، والألمان باذلون جهدهم قصد أخذ الامتيازات؛ وكذلك الفرنسيون. وقد شقت القبائل عصا الطاعة في كل مكان، ولم يجسر أحد من الأوربيين على الذهاب إلى فاس منذ سنة ونصف إلى الآن". فخيل لي أني أرى أمامي مجالا واسعاً للكسب، وقلت له أنت ماذا تطلب مني؟ فقال: أن تساعدني في بيع البنادق لأهل تلك البلاد، حتى يحارب بعضهم بعضاً، وهم يدفعون أي ثمن طلبناه ولو سبعة جنيهات للبندقية القديمة من نوع مارتني، ويمكننا أن نبتاع ألوفا من بنادق مارتني في "أنفرس" بسعر ثلاثين شلنا للبندقية، ووزارة الحربية عندنا تبيعنا بنادق مارتني بعشرة شلنات للبندقية، إذا تعهدنا لها أننا لا نرسلها إلى حيث يمكن أن تستعمل لمحاربة جنودنا، وقد اتفقت مع بعض رؤساء الريف على أن يبتاعوا مني كل ما يمكنني تهريبه من البنادق بسعر سبعة جنيهات للبندقية، فارتأيت في إمكان إرسال البنادق إلى هناك، ولكنني رأيت أننا نستطيع أن نعمل أعمالا أخرى كبيرة محللة، فقلت له: إنني أذهب إلى المغرب الأقصى من الغد، وأبحث الأمر بنفسي، فهل تذهب معي؟ فقال كلا لأن الناس هناك أخذوا يتوجسون مني، فاذا رأوني معك تعذر عليك أن تعمل شيء. فقمت في الصباح وقصدت بلاد المغرب، فوصلت طنجة في اليوم الخامس، ووجدت البلاد قائمة قاعدة بسبب ما حدث من المذابح في الدارالبيضاء، ونزول الجيوش الفرنسية إلى البر، فأقمت شهرين مع هذه الجيوش، ثم عدت إلى بلاد الانجليز، وقد رسخ في ذهني أن الفوز سيكون لعبد الحفيظ لأنه أقدر من أخيه على قمع الثورة، فعزمت أن أساعده، وألفت شركة من نوع "السنديك"، اكتتبت بمبلغ من المال وعدت إلى المغرب الأقصى واستأجرت ترجمانا وسرت إلى فاس. وكان المغرب الأقصى آخر لقمة دسمة في شمال إفريقيا لكي تختصم عليها أوروبا، و قد أقر مؤتمر الجزيرة على استقلالها، ولكن لم يكن هناك ما يكفل العمل بهذا القرار زمانا طويلا، فإن خيرات البلاد كثيرة من الحبوب والمواشي والمعادن والغابات، والدولة التي تتسلط عليها يزيد غناها منها. وبلغت فاس بعد مشاق كثيرة وكنت أول أوروبي دخلها منذ سنة ونصف، فوجدت مولاي عبد الحفيظ هناك جاءها من مراكش عاصمته الجنوبية، ولم أكن أعلم كيف يقابلني إذا طلبت مقابلته؟ لأنني كنت أسمع أنه يكره كل الأوروبيين، ولكنه بعث إلي صباح اليوم التالي هدية من الخبز واللحم والأثمار المختلفة، وأوقف جنديين مسلحين على باب البيت الذي نزلت فيه لحراسته، ثم دعاني إلى قصره في الساعة الأولى بعد نصف الليل. وكان في الأربعين من عمره، شديد السمرة، مجدول العضل، براق العين، بشوش الوجه إذا كان راضيا، وشديد العبوسة إذا غضب؛ بعد السلام المعتاد أوضحت له غرضي ولم أخف عنه أنني راغب في الحصول على أثمن الامتيازات، فوعد أن يعطيني كل ما أطلبه إذا جعلت أوروبا تجعل منه سلطانا وتعقد له قرضا. وللحال دارت المذاكرات مع وكلاء الدول في طنجة للاعتراف به سلطانا، وكان الفرنسيون قد عرفوا أن عبد العزيز لا يصلح للملك فعزموا أن يؤيدوا عبد الحفيظ على شروط ذكروها؛ أحدها: أن يعين راتبا كافيا لأخيه عبد العزيز. وطلب عبد العزيز أن يكون هذا الراتب هو أحد عشر ألف جنيه في السنة، فيتنازل عن حقه في الملك، فاستكبر عبد الحفيظ هذا المبلغ واستدعاني ليستشير في الأمر. ولما قابلني قال لي: إن أخي طلب أحد عشر ألف جنيه راتبا سنويا، وأنا أرى أن أربعة آلاف كثيرة عليه، فما قولك؟ فقلت له: لو كنت مكانك لأعطيته ما طلب. فاستغرب ذلك جدا وقال: لماذا؟ فقلت: إن الراتب الذي يعين له يصير سابقة فيعين بعد ذلك لكل سلطان يخلع، فاذا جاء دورك عين لك خلفك مثله. فاغتاظ مني غيظا شديدا لكنني تمكنت من ترضيه، وأظن أنه رضي أخيرا أن يعطي عبد العزيز كل ما طلبه، وكانت فراستي في محلها لأن عبد الحفيظ لم يقم على عرش المغرب الأقصى إلا بضع سنوات، ثم اضطر أن يتنازل ويكتفي بالراتب السنوي كما اكتفى أخوه. وبعد أن تعبت بضعة أشهر لنيل الامتيازات التي كنت أطلبها كدت أفشل بدسائس أخوين من بيت "منرمن" الألماني والشركة الألمانية التي تشد أزرهما سعيا لنيل الامتيازات التي أسعى لها أنا، ولكن عبد الحفيظ كان يكره الألمان والفرنساويين، و قال لي مرارا: إنه يود أن يضع بلاده تحت حماية انجلترا ويمنحنا حقوقا تجارية دائمة. وأخيرا جاء اليوم المعين لتوقيع الشروط التي كنت أنتظر أن أصير بها أنا وشركائي من كبار الأغنياء، فاجتمعت به في القصر وقرأنا الشروط بعد تنقيحها، وفيها امتياز بكل مناجم المغرب الأقصى لمدة تزيد عن أربعين سنة من تاريخ افتتاح كل منجم منها، وامتياز بإنشاء سكك الحديد والمرافئ في البلاد كلها، وذلك كله بضمان أملاك جامع فاس، مقابل ثلاثمائة ألف جنيه تعطى لعبد الحفيظ في ثلاث سنوات وجانب صغير من ريع المعادن. ولما عرف الألمان ما تم لي أخذتهم الدهشة، وبعد يومين غادرت فاس وأسرعت إلى لندن فذهل شركائي من فوزي وبادروا العمل. فعرضت علينا الأموال ولكن القدر المحتوم خبأ لنا غير ما أردنا، فإنه قيل لنا أنه يجب أن ننال موافقة وزارة الخارجية لكي تحمي مصالحنا، وإلا فإن دفعنا الأموال لعبد الحفيظ ولم يقم وعوده أو لم يقم بها خلفه ضاعت أموالنا كلها. فرأينا القول صوابا وخاطبنا وزارة الخارجية فلم تحفل بنا، و قالت: أن لا محل لشركتنا. فعزمت أن أقرع أعلى باب في البلاد، وطلبت مقابلة الملك إدوارد فقابلني متلطفا ومعه وكيل وزير الخارجية السير "تشارلز هاردنج". جلس في كرسي كبير وتناول سيجارا كبيرا وناولني سيكارا آخرا، وأمرني أن أقص عليه قصتي، فأخبرته بكل ما جرى لي في المغرب الأقصى بالتفصيل، وكان يسألني من وقت لآخر مسائل دقيقة تدل على أنه كان متتبعا لكلامي بالدقة التامة، وسألني أيضا مسائل كثيرة عن عبد الحفيظ، ورأيته صور الامتيازات فقدرها قدرها، واهتم اهتماما شديدا لما أخبرته أن سلطان المغرب الأقصى يود أن يضع بلاده تحت حماية انجلترا. ولما أتممت حديثي خرجت من الحضرة، وبقي هو مع السير "تشارلز هاردنج" يتذاكران، ولما أتما المذاكرة، استدعاني وقال لي: إني آسف جدا لأجلك، فإنك تعبت كثيرا، وحصلت على امتيازات خطيرة الشأن، ولكن يستحيل على وزارة الخارجية أن تأخذ بيدك، لأننا اتفقنا مع فرنسا على أن نطلق يدنا في القطر المصري، ونحن نطلق يدها في المغرب الأقصى، ونعضدها في كل أمر، ومن تم ترى علي أنه مستحيل على وزارة الخارجية أن تؤيد امتيازا يحرم فرنسا من مصالح كبيرة في بلاد تم الاتفاق بيننا وبينها عليها. ثم نهض و صافحني، فعدت من الحضرة وقد انجلت الغشاوة عن عيني. عدت بالفشل ولكن ما خامرني من الغيظ والقنوط حينئذ لم يعتم أن زال. ولما أخبرت رفاقي بما حدث اجتمعوا وحلوا جمعيتهم واقتسموا خسائرها. وهكذا انقضى ذلك المشروع الكبير بعد أن شغل سنتين من عمري، ولم أكتسب منه قرشا. ولما يئس عبد الحفيظ منا عاد إلى ابني "منرمن" وأعطاهما الامتيازات بعد أن عدّلها، فأفضى ذلك إلى حادثة أغادير" انتهى. علاقة الشاهد بالغائب الشاهد هو الانفلات المسجل من تصرف الوزير وسكوت رئيس الحكومة، وهو المشهور بلاآته السالفة الذكر، والغائب هو السؤال عن الهدف من وراء هذا الريع الذي لا مناسبة له! وجواب الحكومة عليه بالشكل الذي تم، وهو ما جعلنا نقول بأن عفاريت الأوقاف إذا كانوا في السابق قد حجبوا عن رئيس الحكومة تغيير الوزير للملاءمة كما أسلفنا، وفرضوا أن يقول بأن ذلك القطاع خارج نفوذه، فإنه اليوم بسكوته عن الذي جرى، بل وتقديم مشروع نص في الموضوع يعتبر من باب تقديم البخور لعفاريت الأوقاف، لغرض في نفس يعقوب نرجوا أن تكون عاقبته خيرا وعملا صالحا، دون تجمير أو تقديم قرابين. * باحث في علم الاجتماع الديني والثقافي، وعضو اتحاد كتاب المغرب، وعضو الجمعية المغربية لعلم الاجتماع، وعضو الجمعية العربية لعلم الاجتماع، وعضو رابطة علماء المغرب.