بعيدا عن بلده الأم إنجلترا، حل والتر هاريس ابن إحدى العائلات البريطانية الغنية بالمغرب في القرن التاسع عشر، وسافر في ربوعه وتعرف على عادات المغاربة وتقاليدهم. بعد سنوات من استقراره في طنجة، تعرض هاريس للاختطاف وسقط في أيدي رجال مولاي أحمد الريسوني، الرجل القوي في طنجة الشهير بكونه قاطع طريق وجبارا ومختطفا. نشر هاريس فصول قصة اختطافه، ولقائه بالسلطان مولاي الحسن وحياة القصور الفخمة بأسلوبه الساخر الممزوج بالطرافة في كتابه «المغرب المنقرض» الذي تنشره «المساء» هذا الصيف على مدى حلقات... بعد عودته من رحلة الصيد، حل مولاي عبد الحفيظ بإحدى إقاماته في زيارة لإحدى زوجاته، وما إن دلف إلى الغرفة حتى غادرتها من الباب الآخر بشكل فاجأه ولم يكن يتوقعه، وعندما هم بمناداتها، تجاهلته وكأنها لم تسمعه ومضت في سبيلها. انتقل إلى غرفة أخرى، لكنه واجه نفس الموقف الرافض لمقابلته من طرف نساء القصر، ولم تشأ أية واحدة منهن أن تحدثه وتركنه وحيدا دون أن يعرف سر ذلك التصرف الغريب. لم يستطع مولاي عبد الحفيظ أن يجد تفسيرا للجفاء الذي يقابل به من طرف الحريم، لينام في سريره داخل بهو الاستقبال القريب من مدخل الفيلا، وتوقع في قرارة نفسه أن تتحسن الأمور لكن ذلك لم يتحقق أبدا. بعد أيام اعترفت العجوز الأمازيغية بخطئها وبأنها هي المسؤولة عن كشف الصورة لنساء السلطان، وتدخلت شخصيا لأوضح الالتباسات وعاد الأمن والسلام إلى القصبة مرة أخرى. لهذا السبب أخبرني السلطان ذات يوم: «تتوفر أروبا على العديد من المؤسسات المتقدمة علينا كثيرا، وأعتقد أن الزواج بامرأة واحدة له العديد من الامتيازات لأنه في حالة نشوب صراع بين الزوجين، يجد الرجل نفسه في مواجهة امرأة واحدة عوض العشرات منهن كما هو عليه الحال هنا». كان للسلطان السابق عائلة كبيرة جدا وعشرات الأبناء الذين كان يحبهم كثيرا ويقضي معهم ساعات طويلة، لقد رباهم بطريقة جيدة وأخلاقهم الآن رفيعة جدا ويرتدون ملابسهم بذوق عال. كنت أفضل بين الحين والآخر أن ألتقي بمولاي عبد الحفيظ في حديقة القصبة لأصادف مجموعة من العبيد السود وعشرين طفلا أعمارهم لا تتجاوز سبع سنوات ولون بشرتهم خليط بين الأبيض والأسمر. أخبرت مولاي عبد الحفيظ ذات مرة أن عدد أبنائه كبير جدا، فضحك من ملاحظتي وأجابني أنهم ليسوا جميعا معه الآن في الحديقة، إذ مازال نصفهم داخل القصبة وعمرهم لا يتجاوز ست سنوات. لقد كان بلا شك أبا رائعا لهؤلاء الأبناء، وفارقهم طيلة فترة الحرب وكل من يعرف أسرته عن قرب لا يخفي مدى حب مولاي عبد الحفيظ لأبنائه. كنت في الطريق إلى الرباط، المدينة التاريخية المليئة بعبق التاريخ والمطلة على المحيط الأطلسي بعد أن قرر السلطان أن يسلم الجنرال ليوطي، المقيم العام الفرنسي في المغرب، أوراق تنحيه عن العرش وإنهاء فصول من الصراع بين الطرفين. لقد تأكد مولاي عبد الحفيظ أخيرا أنه لا يوجد أمامه حل آخر سوى الإذعان للسلطات الفرنسية وإعلان التنازل عن الحكم ومغادرة البلاد، دون أن يخفي بالمقابل نواياه من أجل خلق هامش للمناورة لانتزاع امتيازات أخرى. أعطى السلطان الورقة الرسمية الخاصة بتنحيه عن العرش إلى الفرنسيين وركب الباخرة المتجهة إلى فرنسا عبر جبل طارق، وتسلم مقابل ذلك شيكا بمبلغ 40 ألف جنيه إسترليني، وسط اعتقاد الحكومة الفرنسية بأنه آخر مبلغ سيتسلمه السلطان المغربي. رست الباخرة بعد يوم من السفر في جبل طارق، لأجد نفسي مغادرا المغرب وعائدا نحو إنجلترا، وتعين علي أن أجد باخرة أخرى تقلني إلى ميناء «بلايموت» لكي ألتقي ببعض أصدقائي القدامى. كنت أرغب في أن أغادر الباخرة دون أن ألتقي بالسلطان الذي كان متوترا جدا قبل أشهر وبلغت به ثورة الغضب أن أمر بتعذيب زوجة باشا فاس لإرغامها على الكشف عن مخبأ أحد الكنوز الوهمية، كما أمر بقطع أيادي وأرجل ثوار عدد من القبائل. لم أكن مستعدا لسماع المزيد من هذه الحكايات المقززة على ظهر السفينة الفرنسية واتخذت احتياطاتي لكي لا يلمحني وأنا أغادرها، لكنني لم أنجح في مسعاي إذ تعرف علي بسرعة واتجه نحوي وهو يعانقني وأخبرني أنه إذا لم أوافق على مرافقته إلى فرنسا، فلن يسافر بعيدا ولن يغادر المياه الإنجليزية. بدا مولاي عبد الحفيظ وقتها قلقا وعلامات الضغط العصبي بادية عليه، ضاعفت منها المشاكل التي عاشها خلال الأشهر الماضية. حددت مخطط رحلتي قبل السفر ولم أكن قادرا على تغييره في آخر لحظة، لكن السلطان بدا مصرا على أن أرافقه إلى فرنسا كيفما كان الثمن. تلقت السلطات الفرنسية خبر إصرار مولاي عبد الحفيظ على مرافقتي وطلبت مني أن أغير برنامج رحلتي وأوافق على مرافقته إلى فرنسا، وهو ما أذعنت له أخيرا على مضض. عاد الهدوء إلى محيا السلطان ولم يعد يبدي أية مقاومة أثناء السفر، وبعد الظهيرة أبحرت السفينة بنا متجهة نحو ميناء مدينة مارسيليا.