قد يبدو العنوان غريبا لأول وهلة،إذ ليست هناك أية علاقة بين الإعلام والنسل، لكن بعد التدقيق وإعمال النظر سيتبدى لنا بوضوح أن القاسم المشترك بينهما هو كلمة التنظيم المسكينة التي سيقت سوقا قهريا ومتعسفا لتدل على معاني لم يفكر المعجميون فيها بتاتا بينما لم يجد السياسيون حرجا في إلباسها ماشاؤوا من المعاني تحايلا على المٌساسين حتى يقبلوا ما سيؤمرون به دون الشعور بأي حرج ديني أو أخلاقي، فعوض أن يقولوا قطع النسل ومنع الولادة قالوا تنظيم النسل،وكأن الولادة فوضى ومنعها هو النظام، كل ذلك حتى لا يتعارضوا مع قول الرسول (ص): (تزوجوا الولود الودود ، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ).،وبما أن العالم العربي أصبح،نظرا للتطور التقني، يعج بفضائيات تفوق 400 قناة،منها من يقلق راحة المسؤولين،عمد سياسيونا العرب ،وخاصة وزراء إعلامنا ،وفي إطار الجامعة العربية ،الذين يسيرون وفق نهج مرسوم حدده الشاعر محمود درويش(يدعون لأندلس إن حوصرت حلب)، إلى إصدار وثيقة في فبراير الماضي حشروا في عنوانها أيضا كلمة تنظيم،فقالوا وثيقة تنظيم البث الفضائي العربي،ولأنني لا يمكن أن أفهم من كلمة تنظيم في القاموس السياسي سوى معاكسة التعدد، فهمت أن المقصود هو قطع دابر البث الفضائي على غرار ما هو مفهوم من تنظيم النسل حتى لا تتكاثر الفضائيات وتنشز عن الضبط والتحكم. "" كنت أود لو أن هؤلاء الوزراء شرفوا هذه الكلمة فاجتمعوا لتنظيم السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط،وتنظيم اعتداءات إسرائيل على الفلسطينيين، وتنظيم الغلاء على الشعوب العربية التي لا تمتلك بترولا،وتنظيم التلاعب بمصير العراق من طرف الدخلاء والمستعمرين،أما أن يجتمعوا ليعلنوا تأففهم من القنوات الفضائية ، تحت ستار خلق من التعابير كالقول بأن الوثيقة تعمل على تشخيص وضع الإعلام العربي ومدى مساهمة الفضائيات العربية في دعم الحرية، يذكر بالمثل المغربي الذي يندد ضمنيا بمن يرغب في لبس الخواتم قبل ستر حورته. فالحرية أيضا لم تسلم من التدليل على مفهوم غير مفهومها، وأعتقد لو أن تلك الوثيقة عبرت صراحة عن موقف واضح من القنوات الفضائية أحب من أحب وكره من كره لكانت أكثر مصداقية، لكن الخوف هذه المرة لم يكن من الشعوب العربية وإنما من ردود الفعل الدولية التي قد تتهمهم بالنكوص عن الديمقراطية،وإن كانت الإدارة الأمريكية تتمنى لو يجهز بعض العرب على بعض الفضائيات العربية التي تقود حملة تأطيرية مناهضة للسياسة وقيم الهيمنة الأمريكية بطريقة تبعد كل شبهة عن تورط تلك الإدارة تفاديا لإغضاب الشعب الأمريكي. صراحة لقد انتابني بعض السرور عندما لم يذكر اسم المغرب ضمن الدول الملحة على تفعيل بنود الوثيقة على غرار مصر والسعودية والجزائر،وأدركت وهذا ليس ،مجاملة، بأنه بإمكاننا أن نكون إعلاميا أحسن من أصدقائنا العرب،على الأقل –في بلدنا لا يحاسب التلاميذ على مواضيعهم الإنشائية أو يقدمون بسببها إلى المحاكمة ،وحتى الذين يحاكمون من الصحفيين تنسب لهم تهم كبيرة تعلي منشأنهم ولا تنقص من قيمتهم،وغالبا ما يستفيدون من العفو الملكي بعد الحكم عليهم،وأقدر أن الحكومة المغربية ستجد حلا لبعض المشاكل مع بعض المنابر الإعلامية لإدراكها أن الصحفيين في أي منبر كانوا لن يقبلوا بالتضييق على حرية التعبير التي مهما كانت نسبية في المغرب لكنها موجودة،وتجد من يدافع عنها حتى داخل الحكومة نفسها. من المقبول جدا لو اجتمع المجتمعون لينظموا بالمعنى الحقيقي لكلمة تنظيم أي التجميل عوض المنع التنافسية بين القنوات،و يثمنوا ما وصل إليه العرب من قدرة إعلامية بغثها وسمينها،وكان من المفيد هنا لو أنهم قرروا تنزيل أثمان الأنترنيت من برجها العالي ،والاتصالات بين الدول العربية لخلق التواصل بين شعوبها، ورفعوا كل القيود الرقابية ،و وأقصوا سياسة الانتداب على الفكر والمعرفة. بعض الدول بادرت إلى تطبيق بنود وثيقة تنظيم الإعلام حتى قبل المصادقة عليها،وعندما عقد اجتماع مؤخرا بشأنها تباينت المواقف حيث تحفظت قطر،ولبنان وسورية عليها، طبعا قطر لأنها اشتمت رائحة استهداف قناتها الجزيرة،بينما لبنان وسوريا لا يمكنهما أن تتراجعا عن حرية الإعلام حتى لا تكونا أضحوكة في عين إسرائيل من جهة ولأن التركيبة الاجتماعية والسياسية في لبنان خاصة، من جهة أخرى، لا يمكن أن تتنفس إلا في أجواء حرية التعبير القادرة على تشكيل وعي وطني وثقافي رفيع. لقد قدمت تقنية التواصل الجديدة للعرب خدمة كبيرة في مجال الإعلام والاتصال،وقربتهم من إمكانية الوحدة والتوافق وتحطيم الحدود الوهمية الاستعمارية،لكن حساسية بعض القيادات تجاه قنوات هادفة سياسيا ودينيا،جعلتهم يتداعون إلى قصعة تنظيم نسل الإعلام في الوقت الذي تسمح فيه إسرائيل لقنوات عربية بالعمل بكل حرية، ولا تمنعها من وصف الدولة العبرية بدولة الاحتلال، وتنقل تفاصيل حياة المجتمع الإسرائيلي بكل تناقضاته، وتقدم لها التسهيلات انطلاقا من قيمة سياسية ديمقراطية وإنسانية تفترض ألا أحد منزه عن الخطأ، والتنبيه للأخطاء فضيلة، ولا شك أن دولة الاحتلال تدرك أن استمرار دعم الغرب لها رهين بمدى احترامها لحرية الصحافة ،والتعبير. أما العرب فالاعتقاد أنهم لم يبق لهم أي شيء يخسرونه، فلا أحسن من أن يواصلوا تقبيح صورتهم لدى الآخرين بالإجهاز على وسائل الإعلام من قنوات فضائية، وأنترنيت، وهواتف نقالة. كان بمقدور أية دولة عربية لا يتسع صدرها لقنوات التنوير السياسي، ولا تجد حرجا في نشر الرذيلة من خلال قنوات فاحشة،وساقطة، أن تتخذ الإجراءات اللازمة وفق منظورها الخاص، وتترك الدول الأخرى تبحث لها عن قيمة مضافة في مجال الإعلام،تزيدها احتراما وتقديرا بين شعوب الأرض. إن التفكير في التضييق على الإعلام في العصر الحالي بمثابة السباحة ضد تيار جارف ، نرجو من قلوبنا ألا يكون المغرب من بين تلك الدول التي تتبنى مثل ذاك التفكير.