يبدو أنه من الأسئلة المؤجلة وألا مفكر فيها التي ينبغي أن تطرح اليوم في المغرب هي هل يمكن أن تتطور الحياة الديمقراطية ومنظومة الحقوق والحريات، وتنمى الشخصية الفردية والجماعية ويحرر الإمكان البشري دون تنمية ثقافية عصرية تحرر العقل والخيال وتحرض على الإبداع والحياة؟ فتصوروا معي كيف سيكون واقع ومستقبل مجتمع أو بلاد تسيرها نخبة سياسية وإدارية مصابة بداء فقر الثقافة؟ الثقافة التي نقصدها هنا من طبيعة الحال هي الثقافة العصرية كما هو متعارف عليها في كل المجتمعات والدول الراقية، أي الثقافة التي تعكس الحساسيات الفردية والجماعية، وتفاعل الموروثات المحلية والتجارب الكونية، كما تعكس الأوضاع الاجتماعية والسياسية والحقوقية، وذلك في أشكال وإبداعات رمزية وجمالية حرة وخلاقة. والنخب المعنية أيضا هي هذه المجموعات التي تدبر الأحزاب وتفوز في الإنتخابات وتضع السياسات وتسير الإدارات والمؤسسات وتتولى مراكز القرار، والتي تؤكد العديد من المعطيات والمؤشرات ومن بينها أداؤها وسلوكها السياسي والإداري ومواقفها الاجتماعية، أن جزء كبير منها يحمل أعراض داء فقر الثقافة والفن. فماذا يمكن انتظاره من وزير أو مسؤول إداري أو صانع قرار، أو حتى من رئيس جماعة ترابية أو منتخب لا يلج قاعات السينما والمسرح والموسيقى، وأروقة المعارض التشكيلية ولم يطلع على عالم الأدب والرواية والشعر...؟ من طبيعة الحال واختصارا للتحليل فهذا الشخص لا يمكن أن يكون سويا وكفأ بالمعنى الحديث للصحة الفردية والأهلية العمومية. فداء فقر الثقافة والفن تنتج عنه مضاعفات خطيرة منها ذبول الإحساس وتقوقع الذات وسيادة الهواجس المادية وضعف الخيال، ومن النتائج المؤكدة أن الجهل ومحدودية الخيال وسوء الإطلاع والاحتكاك تولد الرفض والتزمت، ولا يمكن أن تنتج سوى عقولا وأجسادا جافة ومحدودة الإمكان وأفق النظر والقدرة على إدراك المشاكل وإبداع الحلول. صحيح أنه ثمة فئة أخرى من نخبنا السياسية والإدارية والاقتصادية التي تتوفر على ثقافة حديثة وهوايات بديعة وتتباها بثقافتها العصرية بل وحضورها الرمزي والمادي في الأسواق والمناسبات الفنية. فكم تسعد ويسعد معها بعض فنانينا ورواد هذه المناسبات العابرة وفي لحظات انتشاء واعتراف متبادل، وذلك خلال حفلات افتتاح الملتقيات والمهرجانات والمعارض... لكن أغلب هذه المظاهر والمناسبات العابرة لا تعكس وضعا ثقافيا وحسا فنيا فعليا بقدر ما تعكس نوعا من الانقسامية والنخبوية التي تحولت معها الثقافة والفن إلى مجرد ترف اجتماعي، وفلكلورية عصرية جديدة، وموضوع لتبادلات رمزية معزولة. الثقافة والفن شأن مجتمعي، وتربية وتنشئة وخدمة عمومية، وإنتاج وتلقي يعكس الوضع الاجتماعي والسياسي ويساهم بشكل جدلي في دينامية المجتمع وتحولات الحياة العامة وما يرتبط بها من أسئلة وقلق الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والتحديث، حيث أن داء فقر الثقافة بالنسبة للمجتمع والدولة هو بمثابة فقر الدم بالنسبة للجسم. في المغرب، تختزل الثقافة في التراث الديني وأشكالها العتيقة التي تصرف عليها وزارة الأوقاف الملايير من أموال الدولة، وفي المهرجانات التي تصرف عليها ملايير من أموال الدعم والاستشهار لاستقطاب النجوم وتلميع صورة مغرب الانفتاح وصناعة الفرجة والإحتفالية العابرة، وبقية المشهد مجرد بطائق سياحية وفلكلورية متناثرة، وأنشطة ولقاءات وإصدارات وبرامج محدودة الإمكان والأثر يتحمل عبأها كتاب وفنانون وجمعويون، كثيرا ما يستسلمون لليأس بعد استنفاذ رصيدهم من النضال والتضحية والعطاء في غياب مؤسسات فاعلة وفي مجتمع يتجاهلهم. نتيجة لهذا الوضع والتركيبة الاجتماعية ومنظومة القيم والذهنية السائدة والمترتبة عنه تصير الثقافة والفن مجرد مستنبت سياسي ودعوي وآلية للصراع الايديولوجي والقيمي، أو واجهة زجاجية تخفي الفقر والكساد الداخلي. هكذا تنتج المؤسسات والإطارات والإدارات والتيارات الايديولوجية مقارباتها المتباينة وقواميسها المتناقضة كما تختصرها عبارات وشعارات : ايقاعات العالم، الفن النظيف، شجرة الحياة، الحرية هوية الإنسان، مغرب المديح، التعبير الجسدي فن وإبداع، لا للتطبيع نعم للفن... وغيرها من الشعارات وردود الفعل التي تعطي صورة واضحة عن صراع القيم وغياب مشروع ثقافي وطني منسجم يرأب تصدعات مجتمع منقسم حول ذاته، وقادر على المساهمة الفعلية في نهضته وتحرير امكانه البشري. في المجتمعات المتقدمة والدول التي استطاعت أن تنمي مختلف أبعاد ومكونات الشخصية الفردية والجماعية يصير الانتاج والاستهلاك الثقافي جزءا أساسيا من الدينامية الاجتماعية والحياة اليومية للمواطنين والمواطنات. فكما يتم ولوج الأسواق والمساحات الكبرى والمركبات التجارية للتبضع واقتناء الحاجيات الضرورية للتغذية واللباس والترفيه ...يتم أيضا ولوج الفضاءات الثقافية من مساريح وأروقة وقاعات السينما ومكتبات... من أجل تغذية الوجدان والخيال والاستمتاع بالإبداع. من بديهيات الحياة السوية ومقومات المواطنة الفاعلة في هذه المجتمعات الإلمام إلى حد مقبول بمجالات الثقافة والفن والإبداع، حيث أن الأمية الثقافية جزء ومظهر أساسي من الأمية العامة مهما كان المستوى التعليمي والعلمي أو السياسي للأفراد والجماعات. لهذا تسهر المدرسة والجامعة والإعلام والجماعات المحلية ودور الثقافة والشباب...على التربية الثقافية والفنية وتخصص للبرامج والمشاريع المرتبطة بها ما يكفي من الاهتمام السياسي والتدبيري والإمكانات المادية والمؤسساتية، وذلك في إطار مشروع متجانس وواضح المعالم والأهداف. وبذلك تصير الثقافة ويصبح الفن جزءا من الحاجيات والاهتمامات الاجتماعية للأفراد والإطارات ورهانات الدولة، لا يقل أهمية عن الحاجة إلى الأكل والعلاج واللباس، ولا يقل أهمية أو رمزية وجاذبية عن الإقبال على الكنائس أو الحانات والمصحات والملاعب. فالدول والحكومات توفر الولوج العمومي l' accès public إلى الثقافة والفن عبر تشييد المؤسسات وتدبير الفضاءات وسن سياسات يحظى فيها الثقافي بحضور أفقي وممتد وليس فقط بحضور قطاعي معزول وباهت، وتشجع الفنانين والكتاب والإنتاج الإبداعي في مختلف مجالاته التي تعكس الوجود الرمزي والصورة الخلاقة للمجتمع ووضعه الصحي والعام، حيث أن وضعية الثقافة والفن في المجتمع لا تنفصل عن الوضع الحضاري العام ومستوى الحياة الديمقراطية والحقوق والحريات، كما تعكس بشكل بارز دينامية الحياة العامة والخاصة وحيوية الخيال والفكر والوجدان الفردي والجماعي. وعلى عكس ذلك، فإذا كان المجتمع والدولة مصابان بداء فقر الثقافة والفن، فهما كان وضعها السياسي والاقتصادي، فإن جسدهما سيعاني من نقص المناعة والحيوية والانسجام الضروري لتحرير امكانه الإبداعي وقدرته على ابتكار الحلول وبناء الأحلام والمنجزات الضرورية لتطور الأمم.