يعتبر فيلم "زيرو"، الذي توج بالجائزة الكبرى للدورة 14 للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة، من نوع "سينما الهلس" التجارية السطحية الاستهلاكية الممتلئة بالسفالات والألفاظ القبيحة لطمس وإزاحة فن السينما الوطنية الواعدة والطموحة. وهذا النوع من السينما يروج لها المنتفعون والانتهازيون لاعتبارات المصالح والمنافع، وهو جزء من سياسة منظومة الفساد بمكوناتها الشاملة التي تستغوي بالأخلاق البديلة للقضاء عليها. وقصة فيلم "زيرو"، لمخرجه نورالدين لخماري، هي قبل كل شيء قصة منتحلة بكثير من التشويه عن فيلم "سائق التاكسي" لمخرجه الأمريكي الكبير مارتن سكورسيزي. والفارق الشاسع بين الفيلمين هو أن الفيلم الأمريكي يعتبر مسحة سيكولوجية ودراسة نقدية للمجتمع الأمريكي الذي بلغ من التقدم والازدهار شانا عظيما في الجانب المادي مع إهمال الجانب الروحي والمعنوي في بناء حضارته. والمخرج الأمريكي يستقرىء بعدسته حد المجتمع الأمريكي وحضارته الحديثة التي لم يرق إليها مجتمع من المجتمعات الإنسانية، إلا أن هذه الحضارة، حسب المخرج، خلقت من البشر إنسانا غريبا بلا مشاعر ولا عواطف وليس لديه طموحا أو آمالا، ويعمل كالآلة، ويعيش مرعوبا حائرا ضائع الروح والإحساس بالحياة الاجتماعية، لا يرتبط بشيء، ويبحث بلا كلل عن هويته ويفترسه الخوف والضياع والانحلال. انه عالم قذر يلف حياة سائق تاكسي يعاني من الإحباط وخيبة الأمل والشعور بالوحدة ونفاد الصبر من البيئة الحضرية "الملوثة" التي تحيط به ويرفض العيش فيها. وقد رصد لنا المخرج عن جدارة واستحقاق مدينة نيويورك وأناسها تقريبا في مشاهد تشبه الومضات، كما لو أن الظلام يهدد بالإغلاق عليها. انه الجحيم، منذ افتتاح الفيلم على سيارة أجرة خارجة من بخار بالوعات المدينة إلى مناخ مسرح الجريمة التي ينفذها البطل ل"تطهير" مدينة نيويورك. واتبع سكورسيزي أسلوبا اختار التفاصيل التي تثير وتأجج المشاعر، واستخدم اللقطات القريبة التي تشبه الصور البطيئة لامتصاص الأحاسيس والمشاعر الإنسانية وتأزم نفسية البطل، ووظف ممثلين تقشعر لأدائهم الأبدان، كالعاهرة القاصر (جودي فوستر) التي تقمصت دورا في غاية الأهمية وأبانت عن قدراتها الفنية والذهنية بأداء رفيع مبهر رغم صغر سنها (16 سنة لم يتجرا معها المخرج الأمريكي على تعريتها عكس ما فعل مخرجنا المغربي نورالدين لخماري الذي جرد الفتاة القاصر من ثيابها في فيلمه)، أو (سيبل شيبرد) بوجهها البارد المتجمد (يمثل الحضارة الغربية) وكأنها جليد يحاصر الإنسانية. لكن الأهم هي وفاء المخرج لتناسق العناصر النفسية لبطل الفيلم (روبرت دونيرو) ليبقى بدوره صادقا مع ذاته متماسكا في مواقفه ل"يطهر" مدينة نيويورك من الفساد الأخلاقي الذي هو ثمن الانحطاط الثقافي المنسجم مع بنيته الاجتماعية. الاستنساخ الرديء كان لا بد من هذه المقدمة لنضع القارئ في الأجواء الصحيحة التي تم فيها إخراج فيلم "زيرو"، وهو كما سبق واشرنا، انتحال حرفي لنفس قصة "سائق التاكسي" الذي يحمل تمردا جامحا ضد المجتمع الأميركي وثقافته وقيمه اللاأخلاقية، ومحاولة فاشلة لاختبارها من طرف مخرجنا بطريقة جوفاء وجاهلة على المجتمع المغربي. لهذا السبب لا نعتبر فيلم لخماري سوى تعبيرا عن أزمة حادة في الثقافة المغربية ومن النوع الكريه الذي يؤسس، منذ البداية وقبل عبوره عتبته الأولى، لرائحة نتنة تشم منها القيم المنحطة الغريبة والحافلة بالمتناقضات. ويدعي المخرج، في إحدى مقابلاته الصحفية، أن فيلمه من الصنف "الواقعي" الذي يحمل رسالة في تفاصيل النقد الاجتماعي، وكمثال على ذلك يشرح لنا "لغز" تحرير العاهرة القاصر على يد البطل "كرمز" على إنقاذ البشرية والإنسانية من الأخطار التي تتهددها! يا لروعة هذا التحليل الذي تنحبس له الأنفاس! لا توجد في الفيلم رمزية، كل ما يوجد فيه هلس وتشويه وتسفيه لعمل الآخرين ومحاولة فاشلة لتامين الربح التجاري مع التسبب في إضرار كثيرة من منتدى سينما المسخ المهينة المستنسخة على نحو رديء بالعناية الفائقة بالأوساخ واللغط والصخب واللغة الاستفزازية الصارخة المقصودة لإشاعة الثقافة المتردية للنيل من مقومات الأنماط الاجتماعية والثقافية والتأثير على سلوك الشباب والانحدار بالفن السابع إلى مرتع الرذيلة. انه فيلم التهم فيه المخرج نفسه ليشعه بالهراء المََرَضي والثرثرة الزائدة ودغدغة الحواس والالتهاب البصري والصداع السمعي المؤذي شعوريا وفكريا ولا يستحق إلا الإقبار أو الحرق في مقالب الزبالة. وإذا ما قارنا هذا الفيلم مع فيلم مارتن سكورسيزي السابق ذكره (وفي الحلق مرارة العلقم) نلاحظ أن فيلم "زيرو" لا حركة فيه ولا إبداع ولا ابتكار لان المخرج المغربي نورالذين لخماري يفتقر إلى الكفاءة الفنية والمقدرة الثقافية التي تمكنه على النمو والارتقاء بالشأن السينمائي التي يتمتع بها المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي. وكل ما قام به المخرج المغربي انه استحم في نفس الوحل مرتين (اقتباس القصة ومحاولة تقليد سكورسيزي) بكثير من التشويه والقليل من الإبداع. ومنذ البداية يدرك المشاهد أن فيلم "زيرو" أشبه بالدليل الذي يعرف بالمعلومات الوافية عن اللغة الساقطة والمشاهد التي يشيب لها الوليد، من دون رسالة معينة (نود من المخرج أن يشرح لنا معنى الفجور في مشهد عري مؤخرة ممتهن الوشم على النسق الحيواني) والتي لا تعبر عن شيء اللهم مستوى الإسفاف والدليل القاطع على التعفن الذي يستشري في بعض مخرجينا المغاربة. ولم يستطع مخرجنا المغربي السيطرة على وجدانه ليضيف كارثة ثانية (فيلم زيرو) إلى كارثته الأولى (فيلم كازانيغرا) ليتقيأ علينا قبحه المتردي بشدة السطحية البدائية التي لا يمكن إلا أن تكون ناتجة عن محيط اجتماعي معين أو عن أسباب نفسية لشخصية مضطربة، تتمرغ بكل جوارحها حول ثلاثة أقطاب: الكحول والعري والكلام الأكثر بشاعة. كيف نفهم التناقضات والبذاءة التي يعج بها الفيلم بدءا ببطل الفيلم الذي يتحول من شرطي منحل مرتشي، غارق في بحر من الكحول، ومستغل لصديقته العاهرة لابتزاز المال من زبائنها، إلى إنسان متخلق ثائر يسعى ل"تطهير" المجتمع بالقوة (كما فعل روبير دو نيرو لكن على نحو سفساف) لإنقاذ عاهرة قاصر من سوق البغاء؟ أهكذا يستخف المخرج من ذكاء الجمهور المغربي؟ ما الغرض من دخول الطبيبة كنزة عالم البطل (لم تستوعب دورها بالتمام ولم تتوفق في أي مشهد بأدنى قدر ممكن من الأداء السينمائي) وجلبها إلى عوالم مدينة الدارالبيضاء السفلية لترقص لسكارى الحي؟ أليس هذا هراء صبياني في الإخراج السينمائي؟ كيف يعقل أن يجلب شاب مغربي (هذا ما حصل مع بطل الفيلم) عاهرة لوالده لتشفي رغباته؟ من منا نحن المغاربة يزود والده بالحشيش كما يفعل البطل مع أبيه؟ متى تجرد المغاربة من كل الحياء والحشمة ونزلوا إلى الدرك الأسفل لإثارة حمى الكلام الساقط بين الأهل؟ لماذا يطلق الأب (محمد مجد رحمة الله عليه) العنان لسلوكه المريض الملتهب ويتكرر ويخلو من المعنى؟ لماذا تكرار نفس المشاهد المملة المجانية بين البطل ووالده في حين لم يكن المُشاهد قادرا على فهم أسباب بث عويل الوالد أو صراخه الملهوف؟ ولا تتوقف هذه السخافة عند هذا الحد، بل تستمر لساعة وخمس وخمسين دقيقة يتكدس فيها العبث طبقات في ذرى الخبث الزائد، وتطرزها متاهات حوار سيناريو السذاجة المفرطة وحشو المزيد من المشاهد التي لا علاقة لها بالموضوع، كالثمل الذي امتلئ حماسا ثوريا في إحدى الحانات الليلية، ورئيس الشرطة المرتشي الفاسد الذي يعاقب الشرطي البطل، بالتعنيف والكلام النابي، على انحرافه الأخلاقي، في احد مراحيض مقر الشرطة التي بدا عليها وكأنها مرحاض لفندق من خمس نجوم! ما هذا اللعب والهزل؟ ويتحول المخرج نفسه إلى منظر إيديولوجي في مشهد "فنتازي" بلا أسس واقعية وبلا معنى (اقتحام البطل وصديقته العاهرة احد المطاعم الفخمة) لتعرية وفضح الطبقة الفاسدة من أغنياء ومدراء الإدارات المرتشين على يد الطبقة المحرومة اليائسة الفاقدة للأمل. انه مشهد بليد وسخيف وكالح ومحبط يدفع المُشاهد إلى حمل رأسه بين يديه، وعندما يرفعه يتفاجأ بعملية انتقام البطل في نهاية الفيلم بعنف تافه معوز مقترف وغبي وشنيع وركيك البنية والصياغة مما يوحي أن المخرجين المغاربة لا يتقنون هذه المساحة الأكثر تعقيدا في صناعة السينما ولا الممثلين المغاربة على السواء لقلة خبرة جُلّهم وضعف تكوينهم أو انعدامه.