«إذَا كُنتُ لا أستطيع أن أذهب بعيدا، فلأنّني 0صطدمتُ بجدار اللُّغة فتراجعتُ برأس مُدْماةٍ. ولقد كُنتُ أُريد أن أذهب بعيدا.» (كارل كراوس) «إذا كان اللسانُ شيئا آخر غير رُكام طارئ من المفاهيم المُتذبذبة والأصوات المُرسَلة مُصادفةً، فلِأَنّ هناك ضرورةً تُلازِمُ بنيتَه كما تُلازِمُ كل بنيةٍ.» (إميل بنفنست) «لا يُمكن، بالخصوص، أن تُفهَم الآثار الرمزيّة للُّغة من دون أن تُؤخذ بالحسبان الواقعة التي قُتلت إثباتا والتي تُفيد أنّ اللُّغة هي الآليّة الصُّوريّة الأُولى ذات القُدرات التوليديّة غير المحدودة. فلا شيء يَمتنع أن يَنْقال، ويُستطاع أن يُقال اللّاشيء. إذْ يُمكن التعبير عن كل شيء في اللِّسان، أيْ في حُدود الاتِّساق النَّحْويّ.» (پيير بُورديو) يَتكلّم المرءُ، بالضرورة، في لسان ما. وهذا معناه أنّ "الكلام"، بما هو عمل فرديّ، غير مُمكن إلّا على أساس "اللِّسان" الذي هو نِتاجٌ جماعيٌّ (فهُو، من ثَمّ، عمل "0جتماعيّ" و"تاريخيّ" و"ثقافيّ"). يبدو هذا أمرا بديهيّا (وطبيعيّا) إلى الحدّ الذي لا يَصِحّ الاعتراض عليه إلّا من قِبَل من لا يزال يَظُنّ أنّ "الكلام" تَأتيه "الذّاتُ" من تلقاء نفسها كما لو كانت تُبْدِعه أو تُنْجزه من دون قيد ولا شرط. لكنّ تتبُّع كل النّتائج المُترتِّبة على ذلك الأمر من شأنه أن يُبيِّن أنّ 0ستعمال "اللُّغة" لا يبدو بديهيّا (وطبيعيّا) إلّا بقدر ما يُنْسى أنّه يُحيل إلى كل ما يَتجاوز "الذّات"، كأنّ ما يَتكلّم حقيقةً من خلال (أو في) «الفرد النّاطق» إنّما هو "المُجتمع" و"التاريخ" و"الثقافة" بصفتها مُحدِّداتٍ موضوعيّةً تتجاوز إرادتَه ووعيَه (اللّذين يُوصفان، رغم ذلك، بأنّهما "فرديَّان")! إنّ كل من يُولَد إنسانا سَويّا يجد نفسَه مُستعدًّا، بضرورة طبيعيّة، لتعلُّم "اللُّغة" و0ستعمالها. غير أنّه لا يَصير قادرا على "الكلام" إلّا في المدى الذي تزدوج هذه «الضرورة الطبيعيّة» بأُخرى تتحدّد بأنّها «ضرورة 0جتماعيّة» تعمل على تَلْقين الإنسان "اللُّغة" مُتجسِّدةً في لسان بعينه (أو، بالأحرى، على تفعيل «الإمكان الطبيعيّ» فيه بتعيينه «تحقُّقًا 0جتماعيّا»). فالأمر، إذًا، في 0ستعمال "اللُّغة" مُرتبطٌ بنوع من "الضرورة" على كل حال. ذلك بأنّ الإنسان لا يَختار أصلا أن يكون ناطقا، كما أنّه لا يختار أن يَتعلّم "اللُّغة"، وبالأحرى فهو لا يختار أن يَتكلّم في لسان بعينه ؛ وإنّما هو "مُضْطَرٌّ" إلى ذلك كُلِّه لكونه يَتحدّد، في وُجوده وفعله، بالنِّسبة إلى شُروط طبيعيّة و0جتماعيّة وثقافيّة تتجاوزه موضوعيّا وتاريخيّا. وإذَا كان «أنصافُ الدُّهاة» لا يَكادون يُدْركون من "اللُّغة" إلّا أنّها تَحمِلُ مجموعةً من "الآثار" التي تَجعلُها مُحدَّدةً بالنِّسبة إلى تاريخٍ وثقافةٍ مُعيَّنَيْن، فإنّهُم يَظنُّون أنّهم يقولون كل شيء إنْ هُم أَكّدوا أنّ كل لُغةٍ تُعبِّر ضرورةً عن بيئةِ مُستعملِيها (كما يُلاحَظ، بالخصوص، لدى الذين يَبْتهجون حينما يقولون بأنّ «اللِّسان العربيّ» نِتاجٌ «أعرابيّ/بدويّ» بالتّحديد، كأنّ هذا اللِّسان يعكس وحده "الواقع" الماديّ لمُستعملِيه!). لكنّ ما يُعَدّ مُقْلِقا جدًّا في "اللُّغة" إنّما هو، عموما، كونُها تَنقُل إلى مُستعملِيها - على الرغم من أنّها في طبيعتها الجوهريّة ليست سوى نسق "صُورِيّ" أو "رمزيّ"- آثارَ "التاريخ" و"الثقافة" من حيث هي مُحدَّدةٌ تداوُليّا بالنِّسبة إلى مُجتمع مُعيَّن (يُقال، عادةً، إنّ "اللُّغة" مُؤسَّسة 0جتماعيّة). ولذلك، فلا بُدّ - أوّلا- من تأمُّل «الضرورة الاجتماعيّة» الكامنة وراء 0كتساب و0ستعمال "اللُّغة" على الرغم من أنّ 0شتغال "اللُّغة" لا يَقبل أن يُعلَّل فقط من خلال تلك «الضرورة الاجتماعيّة»، لأنّ هناك جانبا أساسيّا فيها لا يُمكن تعليلُه إلّا بافتراض وُجود نوع من «الضرورة الطبيعيّة» التي تُحدِّد «الاستعداد المُعطى» للإنسان والمُقوِّم له ككائن يبدو ناطقا ومُتكلِّما من دون سائر الكائنات. ولعلّ هذه «الضرورة الطبيعيّة» لا تُمثِّل، في الواقع، نوعا من "الِاضطرار" إلّا من حيث إنّ الإنسان مَفْطورٌ بطبيعته على 0كتساب و0ستعمال "اللُّغة". ولهذا، فإنّ «تعلُّم اللُّغة» (المشروط 0جتماعيّا) لا يقبل أن يُفسَّر كُلُّه من خلال 0كتساب الطفل - في فترة مُبكِّرة وقصيرة نسبيّا- لنسقها بما هو نسق شديد الخُصوصيّة والتّعقُّد، بل لا بُدّ من 0فتراض وُجود نوع من «الغريزة اللُّغويّة» التي تجعل الطفل مُهيَّأً في نفسه و/أو ذِهْنه لتعلُّم ذلك النّسق بتلك الكيفيّة (نعوم تشومسكي، ستيفن پنكر). يُمكن القول، إذًا، بأنّ الإنسان ليس "مُضْطرًّا" - من النّاحية الطبيعيّة- إلى "اللُّغة" إلّا على سبيل "الاختيار" لكونه يَمْلِك "القُدْرة" على 0كتسابها و0ستعمالها بأشكال مُتنوِّعة (أو إمكانات كثيرة) ؛ فهو يستطيع بطبيعته أن يَكتسب ويَستعمل أيّ لسان من الألسن الكثيرة والمُتباينة التي تتجلّى فيها بشريًّا "اللُّغة"، من حيث إنّ هذه تبدو - بما هي "كُلّيٌّ"- مُتعالِيَةً على ما هو "بَشريّ" (لعلّ هذه هي فحوى الآية القُرآنيّة: «وعلَّمَ آدمَ الأسماءَ كُلَّها، [...]» [البقرة: 31]). ومن ثَمّ، فما يُمثِّل مُشكلةَ "اللُّغة" يَتعلّق بأمرين مُحيِّرين: أوّلُهما أنّها بقدر ما هي "0عتباطيّة" (أيْ غير قابلة للتّعْليل الطبيعيّ أو العقليّ) تُعَدّ أيضا "ضروريّة" إلى الحدّ الذي لا تبدو "طبيعيّة" و"بديهيّة" إلّا بما هي كذلك ؛ وثانيهما أنّها - بما هي بِنْيات موضوعيّة مُتقمَّصة- تفرض نفسها ك«وسيط ضروريّ» بيننا وبين "الواقع" الخارجيّ كأنّ الإنسان لا يَتحركّ إلّا في «عالَم سيِّدُه الأوحد اللُّغة». وهذان الأمران كلاهما يجعلان 0ستعمال "اللُّغة" مَسألةً جادّةً إلى أبعد حدٍّ. لكنْ، يَجدُر أن يُتبيَّن في حقيقةِ كون "اللُّغة" "0عتباطيّةً" و"ضروريّةً" في آن واحد: فكونُها "0عتباطيّةً" يَنبغي أن يُفهَم منه أنّها، في الظاهر، «غير مُعلَّلة طبيعيّا أو عقليّا» ؛ من حيث إنّ كل إنسان يَمْلِك 0ستعدادا طبيعيّا لاستعمال "اللُّغة" من دون تحديد ولا يُفرَض عليه طبعا أو عقلا أن يَتكلّم لسانًا بعينه (وإلّا لتكلّم الناسُ كلُّهم لسانا واحدا!)، وإنّما يُفرَض عليه ذلك بفعل أسباب تاريخيّة و0جتماعيّة تبقى نسبيّا مُتغيِّرةً. ومن هُنا تأتي الصفة "الضروريّة" للُّغة بما هي نتاج 0جتماعيّ مُحدَّد تاريخيّا. فكونُ المرء لا يَتعلّم "اللُّغة" إلّا بالنِّسبة إلى شروط 0جتماعيّة وتاريخيّة وثقافيّة مُعيَّنة هو الذي يَفرض عليه أن يُنشَّأَ داخل لسان مُعيَّن هو الذي يَصير لُغتَه، بل عالَمه اللُّغويّ. وهكذا، فأنْ يَتكلّم الإنسان في لسان مُحدَّد لا يُعدّ أمرا بديهيّا (وطبيعيّا) إلّا على أساس نِسْيَان أنّ «الضرورة الاجتماعيّة» (والتاريخيّة) هي التي تَتكفّل ب"تطبيع" الإنسان في علاقته بشُروط ثقافيّة مُعيَّنة. وبِما أنّ كل إنسان سَوِيّ قد أُعطيَ بالفطرة القُدرة على 0كتساب و0ستعمال أيِّ لسان، فإنّ "الطبيعيّ" هو أنْ يُتاح له - في إطار مُجتمعه وثقافته- 0كتساب "اللُّغة" و0ستعمالُها في تعدُّدها، أيْ "اللُّغة" تماما كما تَتجلّى في هذه "الألْسُن" المُتغايرة والمُتكاثرة، وليس أبدًا بأن يُحصَر في حُدودِ لسان خاص كما لو كان لا إمكان للكلام (والفعل) خارجه. وهذا «الانشداد المُزْدوج» هو قَدَر الإنسان بصفته لا يكون شيئا من دون 0متلاك "الطبيعيّ" و"الثقافي" فيه على سواء، 0متلاكهما الذي لا يَتحقّق إلّا بالانفكاك عنهما (بما هما ضرورة) والسعي نحو "التّحرُّر" بهما و، بالتالي، منهما! حقًّا، إنّ "اللُّغة" كما تتجلّى في "الألسن" الكثيرة والمُتبايِنة تبدو كما لو كانت "0عتباطيّة": فهي "أصواتٌ" أو "أسماءٌ" لا تقترن بالأشياء كمُسمَّيات لها على نحو طبيعيّ وضروريّ، إنّها غير قابلة للتّعليل بهذا الشكل (إذْ لو كانت مُعلَّلةً طبيعيّا أو عقليّا، لفرضتْ نفسها على كل الناس بصورة واحدة، أيْ كلسان واحد ثابت ومُحْتتن). ولهذا فإنّ "الأصوات" أو "الأسماء" تختلف من لسان إلى آخر، بل حتّى في "اللِّسان" الواحد تدُلّ على أشياء مُتعدِّدة أو يُدَلُّ بكثير منها على الشيء الواحد، فضلا عن أنّها تظلّ مُتغيِّرةً نسبيّا في مَبناها ومعناها. لكنّ العلاقة بين "الدوالّ" و"المدلولات" داخل نفس اللِّسان ليست "0عتباطيّةً" تماما، بل تَحكُمها ضرورة بنيويّة ووظيفيّة تجعل وحداته الصرفيّة والتركيبيّة والمُعجميّة تتحدّد، في آن واحد، بشكل تعارُضي ونسقيّ. ولأنّ "اللُّغة" في تعيُّنها تشتغل كلسان يَفْرض نفسه كما لو كان "طبيعيّا" و"بديهيّا"، فإنّ "0عتباطيّتها" الأصليّة تُنْسى وتصير قائمةً ك«واقع ضروريّ» من دون أن تبدو صراحةً بأيِّ واحد من ذَيْنك الوجهين. إنّها تتجلّى فقط بوجهها "الطبيعيّ" و"البديهيّ" بحيث لا يكون أمام النّاطق أو المُتكلِّم إلّا أن يَستعمل "اللُّغة" في صورةِ «لسان معياريّ»، كل شيء فيه يبدو مُعلَّلا تعليلا نحويّا و/أو عقليّا. ولأنّ الأمر في 0كتساب (و0ستعمال) "اللُّغة" يَتحدّد بالنسبة إلى "الضرورة" الاجتماعيّة والتاريخيّة، فإنّ "اللُّغويُّ" (أيْ «ما هو لُغويٌّ») يَقف بين "الإنسان" وأشياء "العالَم". ذلك بأنّ المُتكلِّم لا يستطيع، في الواقع، أن يُدرك أيّ شيء إلّا من خلال توسُّط "اللُّغة" وتوجيهها غير المُباشر له. وإنّ أشدّ ما في توسُّط "اللُّغويّ" هذا هو كونه يَتعيَّن في حضوره بصفة "المُتعالِي" على الرغم من 0شتغاله "المُتنزِّل" ضمن ما هو قريب تداوُليّا منه. إنّ "اللُّغة"، بما هي صُورةٌ سمعيّة ورمزيّة، تُمثِّل نسقا من «الوحدات الصُّغرى» المحدودة في عددها والقابلة لأن يُؤلَّف (أو يُركَّب) بينها لبناء ما لا نهاية له من «الوحدات الدّالّة» التي تدخل في علاقات ترتيبيّة وتراتُبيّة لإنتاج ما لانهاية له من الأقوال والجُمل التي تقبل أن تُستعمل في سياقات ومَقامات مُتباينة. فليس المُهمّ، إذًا، في "اللُّغة" مادتها التي هي شيء واحد (سواء أَعُدّت أصواتا أمْ رُموزا)، بل المُهمّ فيها صُورتها. و«صورة اللُّغة» هي التي تُمثِّل ما يُسمّى "النّحو"، ليس بمعنى نسق القواعد، بل بمعنى «نسق الألعاب» التي هي شكل من أشكال الحياة العمليّة (فتغنشتاين). وحينما نصل إلى أنّ حقيقة "اللُّغة" بشريّا لا تعدو كونَها «نسقًا من الألعاب»، فإنّ مفهوم "الاعتباطيّة" يَصير مُلازما لمعنى "الضرورة": إنّه لا يَدُلّ على الطابع «غير المُعلَّل» إلّا في الظّاهر، لأنّ كون الأصوات أو الرُّموز غير قابلة للتّعليل الطبيعي أو العقليّ لا يجعلها كذلك بما هي "دَوالّ" ترتبط بنيويّا ووظيفيّا ب"مدلولات" مُحدَّدة، وإنّما من حيث كونها «نسقا من الألعاب» على مستوى الاستعمال، أيْ نسقا مُعلَّلا بالنِّسبة إلى مجال تداوُليّ مُحدَّد اجتماعيّا وتاريخيّا. وبالتالي، ف«اللّعب اللُّغويّ» لا يكون مجرد "لَغْو" إلّا عند من لم يَتبيّن أنّ اكتسابَه بهذه الصورة في الطفولة الأُولى يرتبط بغياب "الإرادة" و"الوعي" لدى المُتعلِّم على النّحو الذي يجعل «اعتباطيّته الأصليّة» لا تعني «التّحكُّم/التّشهِّي» (أو الفعل بأمر حُرٍّ من دون قيد ولا شرط) إلّا من جرّاء «نسيان التاريخ» و«الضرورة الاجتماعيّة» المُلازِمة له. وبِناءً على ذلك، يُفهَم كيف أنّ «أنصافَ الدُّهاة» بوُقوفهم عند ظاهر «0عتباطيّة اللُّغة» يجدون أنفسهم مُذَبْذَبين بين النُّزوع إلى "التَّعْميَة" (بالدَّعْوة إلى "العاميّة") والاستسلام إلى "التَّعْجيم" (بتفضيل هذه اللُّغة الأجنبيّة أو تلك)، مِمّا يَجعلُهم عاملين على فرض "اللُّغة" كأمر واقع، وهو ما يَفضح كونَهم يَغفُلون عن حقيقة أنّ "اللُّغة" شكلٌ من «أشكال الحياة» بحيث تراهُم يَظنّون أنّ مُمارَسةَ الحق في الكلام لا تَتطلّب من المُتخاطبين أكثر من استعمال «اللُّغة المُسيطرة» عُموميّا أو مدرسيّا بصفتها تُتيح، حتما وتلقائيّا، المُشارَكة في الألعاب والرِّهانات الموضوعة (والمُلاحَقة) في مختلف مَدارات التّواصُل والتّبادُل. لكنّ «اللّعِب اللُّغويّ» يَتجاوز، في الواقع، مُستوى "اللَّغْو" المُعتاد إلى مُستوى "الإنجاز" المُكلِّف. ف"التّكلُّم" كفاءةٌ عمليّةٌ لا تَتحقّق إلّا من حيث هي مشروطة اجتماعيّا وتداوُليّا بما يُقيمها في صورةِ "أوضاع" مُتفاوتة و"توضُّعات" مُتغايرة (بُورديو). وعليه، فلا سبيل إلى التّحرُّر من "الضرورة" المُلازِمة موضوعيّا لاستعمالات "اللُّغة" فقط بامتثال الطريقة المعمول بها في الكلام، بل لا بُدّ من إجادة "المُناسَبة" بين «نحو اللُّغة» و«مُقتضى الحال»، حيث إنّ "اللُّغة" لا تشتغل فعليّا إلّا بما هي «كيفيّةٌ عَمَليّةٌ» تبقى قصديّتُها العميقة مُتعاليَةً على "المُتكلِّم" العاديّ ما لم يُمَكَّنْ من القُدرات اللازمة لمُمارَسة «الرُّجوع الانعكاسيّ» الذي من شأنه أن يَكفُل إحكام "النَّظْم" فيما وراء «الاتِّساق النّحويّ»، أيْ إحكام «نَظْم المَعاني» كما يَستلزمُه "الفِكْر" في بحثه عن "المَقْبوليّة" بالجمع بين «المُمكن اللُّغويّ» و«المُتحقِّق الواقعيّ». ولهذا، فإنّ الانفكاك عن "الضرورة" المَنْسيّة لا يَتأتّى بتوهُّم أنّ "الاعتباطيّة" تُعطي للمرء كل "الحُريّة" بمجرد أن يَستعمل ما يُوصف بأنّه لُغتَه، وإنّما تترتّب على تحقيق الوعي ب"النّحو" الذي يَتجاوزه باعتباره يُحيل إلى اشتغال "الواقع" (الموضوعيّ) ليس فقط من وراء "الفكر" و"اللُّغة"، بل أيضا من خلالهما كما صارا في نفسه (أو، بالأحرى، كما صار «هو نفسه» من خلالهما). ومن هُنا، فَشَتّانَ بين مَسعى الذين يَنْجرفون مع الاستعمال العاديّ للُّغة كما لو كان يُمثِّل «فعل الكلام» كتعبير عن "الذّات" في حُضورها العفويّ والمُباشر، وبين مسعى الذين لا يُسلِّمون باستعمالها العاديّ إلّا لتأكيد أنّ الطابع البديهيّ (والطبيعيّ) لاشتغال "اللُّغة" لا يجعلها تفرض نفسها إلّا بقدر ما يُخْفي اعتباطيّتَها الأصليّة في دلالتها على تلك "الضرورة" المُحدَّدة اجتماعيّا وتاريخيّا. فاستعمال "اللُّغة" لا يكون بَيانًا بمجرد الخُروج من ظاهر "اللَّغْو"، وإنّما يكون كذلك بالظهور على آثاره العاديّة كما يُخلِّفها الاكتساب الضروريّ في نفس المُتكلِّم، وأيضا بالتحكم في مَجاريه على لسان النّاطق الذي تُغْريه عادةً إمكاناتُ "اللُّغة" اللّامحدودة فيَنقاد لها مُندفعا للتعبير عن كل شيء في عالَمٍ صار مُخْتزَلا عنده في "اللُّغة". ولهذا، فإنّ استعمال "اللُّغة" لا يكون مُحرِّرا حقيقةً إلّا على أساس التّمْكين من «الفاعليّة الانعكاسيّة» التي تحمل «اللّعب اللُّغويّ» على محمل الجِدّ بما هو لعبٌ دَالٌّ دائما بحكم كونه مُحدَّدا بشروط تداوُليّة وعمليّة فيما وراء "اللَّغْو" الذي "يُطبِّع" الاكتساب الضروريّ للُّغة إلى حدِّ إلباسه لباسًا ثقافيّا يَصير به "بديهيّا" و"طبيعيّا" فيَمُرّ، لدى معظم الناس، دون كثير كلام. [email protected]