أود إثارة قضية غريبة، لا علاقة لها لا بالآداب الإنسانية العامة ولا بقيم ديننا الحنيف ولا بمنطق العقل الفطري ولا بمكتسبات العصر الحديث. سوف أحكي واقعة ملموسة من واقعنا اليومي ومن حياتنا المغربية المعاصرة، إنها مفاجأة صادمة لكل ذي حس سليم. عند زيارتي لمقبرة مدينة العروي المنتمية لإقليم الناظور، اكتشفت أمرا غريبا حقّا: مقبرة داخل مقبرة، مقبرة من الدرجة الاولى وأخرى من الدرجة الرابعة! أموات أفضل من الأموات، عنصرية في الماوراء.. مقبرة راقية غنية في مقابل مقبرة شعبية فقيرة. ذهلت، استغربت كثيرا لمثل هذا الأمر، انتابني شعور فظيع لا أدري كيف، ولماذا؟ ربما لأسباب لا يعرفها إلا أصحاب الحال من ساسة المدينة وأعيانها الموقورين. لم أتصور أبدا أن يكون ثمة تفاوت طبقي وكيتوهات وأحياء راقية حتى في مقابرنا وداخل المقبرة الواحدة. تتواجد مقبرة مدينة العروي قرب ثانوية تحمل من الأسماء اسم "ثانوية إبن الهيثم التأهيلية"، نسبة إلى العالم الأسطوري ابن الهيثم، الذي لم تحترم لا تعاليمه، ولا ما قدمه من علم ومعرفة لبعض من ولج المدارس والثانويات والجامعات. سألت حارس المقبرة: كيف تسنّى لبشر محسوبين على الأمة المحمدية التي دينها الإسلام، دين العدل والمساواة، أن يميزوا فيما بينهم حتى في المقابر وهم أموات؟ ألم تكتف الحياة التمييزية العنصرية المتطرفة التي عاشوها، فانتقلوا إلى عالم الأموات حيث تطرفوا وتشددوا هناك أيضا؟ أم أن الجهل 'المقدس' الغالب في الأوساط الإجتماعية المغربية هو مرض مزمن لا يكف يعيد إنتاج نفسه ومعه يعيد إنتاج النخب الفاسدة التي تستفيد لا فقط من مختلف أنواع الريع الاقتصادي والسياسي، بل تستثمر أيضا رأسمال القيم البالية أحسن استثمار. طرحت أيضا أسئلة أخرى عديدة على نفسي، وما انتهيت إلى جواب. لم أفهم سوى أن الأمر يتعلق بأناس متخلفين ومختلفين عن أناس بالمدينة عينها. أجابني الحارس وبصوت منخفض جدا خائفا حتى من نفسه: إن الأمر يتعلق بأناس شرفاء كرام، كما يعتقدون. قلت ربما يتمتعون بمناصب عالية وسلطة يختبئون وراءها، أجاب بنعم ثم استرسل قائلا: لا يمكننا حتى النظر إليهم ولو بعين واحدة، أو نرفع رؤوسنا عاليا ونقف كأناس مثل الناس أمامهم. قلت: عن أي شرف وكرم تتحدث أيها الحارس ولماذا لا نجرؤ أن نرفع رؤوسنا مثل الناس؟ وهل من يقدم للفقراء مأدبة عشاء أو مبلغا ماليا مقابل التصويت في أيام الانتخابات يسمى كرما؟ وفي المقابل، هل من يبيع صوته يمكن أن تطلق عليه لقب إنسان؟ لكن ماذا عن ظروف الفقر والتفقير والجهل والتجهيل؟ صحيح أنهم يعتبرون أنفسهم سادة المدينة وغيرهم عبيد؟ أليس زمن شراء وبيع المواطنين قد ولّى يا حارس مدينة الموت؟ يبدو أننا لم نبرح بعد عصر الجاهلية الأولى، أليس كذلك يا حارس الأموات؟ ثم ألسنا سواسية في الموت كما في الحياة؟ قال: إنني لم أفهم شيئا من هذا المجتمع حتى الآن، ما أعرفه هو أننا نعيش في غابة مليئة بالأكاذيب، والقوي يأكل الضعيف، الرشوة، الفساد الإداري، السرقة، والنفاق...إلخ، لكن في الوقت نفسه يزعمون أنهم مسلمون ومؤمنون بالله ورسوله. وحدها مدينة الأموات تنعم بالسلام والأمن والعدل. قلت: لقد اكتشفت اليوم أن العدل عملة غائبة أيضا عن مدينتك الهادئة. وفي غياب العدل يغيب الأمن والسلام أيضا يا حكيم الأموات. يا للغباء تذكرت في الحال أقوالا لذوي الحكمة تقول: "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان" وأخرى تقول: "الإنسان خير الطبيعة"، فأين الحكمة يا حكيم؟ بالله عليك أفدني، أين الحق وأين العدل؟ بل أين الإنسان في كل هذا؟ ربما يتوجب على الملاحظ تفهّم الوضع قدر استطاعته، قد يقول قائل: لو قامت الدولة ب"علمنة" المقابر لما رأينا مثل هذه الأفعال الشنيعة التي تجرح على السواء مشاعر الزائرين من العابرين والذين اختاروا الاستقرار الدائم. أليس لهؤلاء الأسياد مشاعر؟ إن لم تكن لديهم مشاعر الأموات فليدركوا على الأقل مشاعر الأموات. لأن التمييز والعنصرية قيم مكروهة في كل المجتمعات، مجتمعات الأحياء والأموات على السواء. والمفارقة أنها قيم حاضرة أيضا في كل المجتمعات، بتفاوت طبعا. بعضها قطع شوطا كبيرا في التحرر ونحن ما زلنا لم نتلمس الطريق بعد. إن طريق الحرية شاق وطويل، وأوهام المساواة والعدل والمعرفة تسكننا إلى حد العبودية والجهل المقدسين. علق الحارس: نعم نحن سواسية في الكتاب فقط، أما الواقع الملموس فهو شيء آخر، دائما نقول ما لا نفعل، هكذا ولدنا، وهل سنموت هكذا؟ وهل "سنعيش" حتى في مدينة الأموات هكذا؟ ضحك الحارس إلى درجة البكاء... قلت: انظر أيها الحارس إلى هؤلاء الأموات المتميزين في حيهم الراقي، وتمعن جيّدا في الأمر، كأنهم شعب الله المختار في مقبرة المدينة!! انفجر الحارس قائلا: نعم، نعم لا مساواة ولا عدل ولا ديمقراطية، لا هنا ولا هناك. رفع وجهه إلى الأعلى وكله ورع وخشوع: لا أمل لنا غير السماء وما قد تمطره، مطرا أو قنابل، خيرات أو شرور. خيرات الله كثيرة، لكن قبل أن توزع تسرق من خزائن السماء بتواطؤ مكشوف من حراس التقاليد الذين تجدهم دائما في الصف الأول في محراب المسجد ومنصة الحزب وصناديق البنك ومطابخ المخزن. إخ على وطن لا يكرم مواطنيه إلا بالعصا والضرائب والتجهيل والتشريد والإذلال حد العبودية. لأن في حراسة التقاليد حراسة المناصب وفي حراسة المناصب حراسة اليانصيب. والوزيعة تقسم بين الأسياد الأشراف الكرام الأحرار وأما العبيد البرابرة اللئام فنصيبهم قاعة الانتظار واستلذاذ الأوهام كما العادة. وقد حيرني، في الأخير، سؤال رماني به الحارس قبل أن أودعه، سؤال بقي في ذهني أجره معي أينما ذهبت وارتحلت: أحزابنا تغلب عليها أسماء الحرية والعدل والاشتراكية ولا عدالة ولا حرية. باختصار إننا لا زلنا نعيش في عصر القطعان وبيع الأوهام (هل لديك شك في ذلك؟) فمتى ننتقل إلى زمن التنوير والحرية والعدالة؟ بل، متى نخرج من قبورنا؟