أثار اغتيال المناضل اليساري والمحامي التونسي شكري بلعيد، الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، في ال 6 من فبراير الجاري، الكثير من ردود الفعل. ثلاث رصاصات صوبها قناص محترف إليه وهو يهم بمغادرة بيته صباحاً أردته قتيلاً، ما أثار غضباً عارماً في أوساط التونسيين ولدى مناضلي اليسار عبر العالم. إن اغتيال بلعيد يذكر بجريمة مماثلة طالت ناشطاً يساريا تربى في كنف الثورة الفرنسية في النصف الأول من القرن الماضي. يتعلق الأمر بالمناضل اليساري الروسي الأصل "فيكتور سيرج" الذي وجهت إليه رصاصة غادرة في قلب مكسيكو يوم 17 من نوفمبر 1947 لتخرس صوته المزعج إلى الأبد !. لقد غُيب فيكتور سيرج بعدما ساهم إلى حد كبير في بناء مسار الديمقراطية الفرنسية. رحل عن هذا العالم مخلفاً تاريخاً حافلاً بالدروس والعبر، فمذكراته أو سيرته الذاتية التي طبعت لأكثر من مرة باتفاق مع مؤسسة فيكتور سيرج تحت عنوان " Les mémoires d'un révolutionnaire" هي بمثابة دليل لكل ناشط سياسي يساري. كذلك كانت حياة شكري بلعيد، وكذلك كان رحيله... في خضم الغضب الذي خلفه اغتيال هذا الزعيم السياسي والناشط الحقوقي الذي تولى الدفاع عن المعتقلين الإسلاميين في سجون نظام بنعلي، يجري الآن تبادل الاتهامات حول من يقف خلف الجريمة. هناك من يتهم صراحة حركة النهضة، وهناك من يحملها المسؤولية المعنوية فقط، في حين ذهب آخرون أبعد من ذلك عندما اتهموا جهات خارجية معادية للانتقال الديمقراطي في تونس... فمن يقف وراء اغتيال شكري بلعيد ومن له المصلحة في هذا الاغتيال؟ ليست هناك حتى الآن أية أدلة تدين هذا الطرف أو ذاك، وفي غياب تحقيق دولي محايد، من العبث تحميل حركة النهضة أو غيرها المسؤولية الجنائية لهذه الجريمة، غير أنه في الآن نفسه لا يمكن تبرئة ذمة إسلاميي تونس تماماً، فحركة النهضة تتحمل مسؤولية سياسية واضحة في هذا الاغتيال. كيف ولماذا؟ لقد كانت مساجد المدن والقرى التونسية ، طوال الأشهر الماضية، مرتعاً لفتاوي تكفير اليساريين والعلمانيين والتهديد بقتل المعارضين، جرى هذا أمام أعين السلطات التي لم تحرك ساكناً. هذه الفتاوي والتهديدات موثقة بالصوت والصورة وهي منشورة على نطاق واسع في شبكة الانترنيت وما زال أصحابها أحرار طلقاء !. الراحل شكري بلعيد نبه في أكثر من مناسبة إلى الخطر الذي يتهدد المعارضين، وصرح إلى وسائل الإعلام في أكثر من مرة أن حياته في خطر، كان آخرها التصريح الذي أدلى به لإحدى القنوات عشية اغتياله، غير أن وزارة الداخلية التي يتولى حقيبتها وزير من حزب النهضة أحجمت عن القيام بدورها في حماية حياة مواطن في خطر. بل إن حضور النساء جنازة الراحل أثار حفيظة وزارة الشؤون الدينية أكثر من قلقها على اغتيال هذا الأخير !. من المؤكد أن الحركة الديمقراطية التونسية خسرت مناضلاً صلباً يتميز بشخصيته الكاريزمية ويحظى باحترام أطياف عدة في تونس، لكن من الخطأ الجزم بأن حركة النهضة هي المستفيد من هذا الاغتيال. لقد حبكت الجريمة بإحكام وتم ضرب عصفورين بحجر واحد: فمن جهة تم التخلص من مناضل عنيد لا يقهر كان من الممكن أن يلعب دوراً محورياً في مستقبل تونس، ومن جهة ثانية يجري السعي إلى عرقلة مسار الانتقال الديمقراطي وإدخال البلاد في دوامة العنف واللاستقرار حتى يحن الناس إلى العهد البائد!. وإذا كان من الصعب اتهام أي طرف بالوقوف وراء الجريمة، فإن الأكيد أن معارضي الانتقال الديمقراطي في تونس كثيرون. هناك دول الخليج التي لا تأل جهداُ في إعاقة التحول الذي يشهده شمال إفريقيا والشرق الأوسط، تارة بإرسال جيوشها (قوات درع الجزيرة) لإخماد شرارة الثورة في البحرين، وأخرى بالدعوة إلى انضمام المغرب والأردن إلى دول مجلس التعاون الخليجي وإغداق الوعود بالمساعدات المالية، دون أن ننسى إلى جانب كل هذا الدعم السخي الذي تقدمه هذه الدول إلى الحركات السلفية التي تخوض عنها حرباً بالوكالة ضد الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان. لقد راهن كثيرون على حزب النهضة في تونس والحرية والعدالة في مصر لضمان انتقال ديمقراطي على نحو يحاكي التجربة التركية. هذه التجربة التي نجحت في تحقيق التعايش بين العلمانية والدين تحت سقف واحد، دون أن يطغى أو يجور أحدهما على الآخر، إلا أن الفترة التي قضاها الحزبان في الحكم أظهرت أن النموذج التركي لا يغريهما بالمرة، بل إنهما أبديا ميلاً وانفتاحاً واضحين على دول الخليج التي تتوجس من شيء اسمه الديمقراطية، خاصة قطر والسعودية. إن الساحة السياسية في الدول التي شهدت هبة الربيع الديمقراطي تعيش جملة من التجاذبات. هناك من جهة دول الخليج، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، التي تعمل كل ما في وسعها لعرقلة قيام نموذجي تركي آخر في المنطقة عبر إشهار ورقة السلفية التي تضغط بها على الأحزاب الإسلامية المعتدلة، هذه الأخيرة التي تلعب بدورها على الحبلين، فهي تحاول أن تبدو ديمقراطية وعصرية لكنها لا تريد في الآن نفسه أن تخسر ود الحركة السلفية وود إمارات الخليج. من جهة ثانية، هناك بعض الدول الغربية التي شعرت أن مصالحها في المنطقة مهددة، ومن الممكن أن تساهم في خلط الأوراق وإشاعة الفوضى وجعل المواطنين يتوجسون من أي تغيير، وهي تدعم بقايا النظام البائد لإبرازها في المستقبل كبديل يضمن العودة إلى "الاستقرار". وحتى يتم تجاوز الوضع الراهن وإنقاذ رصيد الثورة، ليس هناك من خيار أمام الإسلاميين، الموجودين الآن في مفترق الطرف، إلا الحسم بين مسارين اثنين لا ثالث لهما: إما الإعلان عن الانحياز التام للديمقراطية وحقوق الإنسان في شموليتها دون التذرع بالخصوصية والاختلاف عن الآخر، لأن الخصوصية فكرة معادية لمنطق الديمقراطية، وقد سبق وأن لوحت بها الأصولية المسيحية في ما مضى لكنها لم تصمد طويلاً، أو الإعلان صراحة أن الهدف الحقيقي هو التهيئ لإقامة نظام سياسي ثيوقراطي لا مجال فيه للحرية والاختلاف. الحركة الإسلامية، إن كانت صادقة في نواياها، مطالبة اليوم باستيعاب المفهوم الحديث للديمقراطية الذي يتجاوز رهن هذه الأخيرة بصناديق الاقتراع. لقد أبدع المفكرون وعلماء السياسة مفهوماً جديداً يجيب على المشاكل التي أفرزتها الممارسة الديمقراطية الكلاسكية، ويتعلق الأمر بما بات يعرف اليوم بالديمقراطية التشاركية "La démocratie participative". إن الديمقراطية ليست مجرد تقنية أو آلية للحكم بل هي قيمة (Valeur)، فعلى سبيل المثال لا تمثل 51 في المائة من المصوتين إلا نسبة قليلة من هيئة الناخبين، وهي غير كافية لتبرير سياسة معينة، فضلاً عن ذلك، الدولة مطالبة بضمان انسجام المجتمعات غير المتجانسة. لابد من التأكيد على أن مرحلة التأسيس للانتقال الديمقراطي تستدعي التوافق بين جميع الأطياف لتحديد ملامح المجتمع الذي تريده، ولا يمكن بأي حال من الأحوال لصناديق الاقتراع أن تحدد شكل هذا النموذج، لأنه ليس من العدل تغليب رأي ومصلحة فئة ضد فئة أخرى مهما كان عددها قليلاً. إن النموذج المجتمعي الأمثل هو ذاك القادر على استيعاب الجميع، على اختلاف انتماءاتهم السياسية والفكرية والعقائدية، وأي نموذج يستمد مرجعيته من إيديولوجية تقصي الآخر وتضطهده ولا تعترف بحقوقه ولا تضمن حرية المعتقد والضمير وباقي الحريات، ليس سوى نمطاً آخر من الديكتاتورية يحمل في ثناياه قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أية لحظة. لقد آن الأوان ليستمع كل طرف للآخر ويقتنع بأن الحل هو التعايش دون إقصاء أو هيمنة ودون ضغط من هذه الجهة أو تلك. وما اغتيال شكري بلعيد إلا ناقوس خطر يجب أخذه على محمل الجد، وإلا فإن المستقبل سيكون أكثر ظلاماً ومأساوية إزاء إصرار كل طرف على موقفه، فالصراع لن يحسم بالقوة والترهيب بل بالحوار واستثمار المشترك. (إعلامية وكاتبة)