الرصاصات الأربع التي أطلقت على رأس المعارض اليساري، شكري بلعيد، أمس في تونس، لم تستهدف حياته فقط، بل إنها استهدفت قلب أول ثورة في العالم العربي تطيح بنظام دكتاتوري. شكري بلعيد كان مناضلا يساريا في حزب اسمه «الوطنيون الديمقراطيون»، وفي انتخابات السنة الماضية لم يستطع هذا الحزب اليساري الراديكالي، الذي كان يعتنق الماركسية على مذهب أنور خوجة في ألبانيا، أن يقفز فوق عتبة 5% لكي يكون ممثلا في البرلمان، وهو ينتمي إلى الأحزاب اليسارية التي لم تعد تنشط سوى على الفضائيات العربية وصفحات الفيسبوك، ولهذا فإن اتهام حزب النهضة، بعد ساعات من اغتيال بلعيد، بالمسؤولية عن هذه الجريمة، اتهام فيه نظر حتى تنجلي الحقيقة، لأن حياة بلعيد لم تكن تشكل خطرا على الغنوشي بل إن قتله ما يشكل خطرا على تونس الآن، سنعرف الحقيقة ولو بعد حين، والتاريخ علمنا أن الدم يتبع قاتله إلى أبعد مما يتصور عقل المجرم. اغتيال شكري بلعيد لا يخرج عن فرضيتين أساسيتين: إما أن فلول النظام السابق وأتباع حزب بنعلي، الهارب إلى السعودية من قضاء بلاده، قد مروا إلى الهجوم بعد أن قضوا سنتين في الدفاع عن مصالحهم وامتيازاتهم في وجه الثورة، وأنهم يريدون إسقاط مشروع قانون تحصين الثورة، الذي تقدم به حزب النهضة من أجل منع بقايا الحزب الدستوري من الترشح للانتخابات المزمع تنظيمها هذه السنة بعد إقرار الدستور، خاصة أن بعض البقايا المافيوزية التفت حول الباجي قايد السبسي في حزب جديد أطلق عليه اسم «نداء تونس». هذه البقايا، التي مازالت تتحرك في قطاع المال والأعمال والإعلام والإدارة، تريد، باغتيال شكري بلعيد، نزع الداخلية من يد الوزير علي العريض حتى لا يشرف على الانتخابات القدامة، منفذوا هذا الاغتيال يريدون أن يقولوا للتونسيين وللغرب، الذي ساند ثورة الياسمين، إن الإسلاميين مروا إلى الاغتيالات، وإن الأجندة الحقيقية للأصوليين بدأت تخرج إلى العلن، وإن الربيع العربي تحول إلى خريف أصولي. أما الفرضية الثانية فهي أن تقدم الحركات السلفية، المخترقة فكريا وأمنيا من الداخل ومن الخارج، على هذه الحماقة، بعد أن يخطط المهندسون، الذين يعرفون أصول اللعبة، لهذا الاغتيال حتى يظهر طبيعيا، كأن يستقطبوا شبابا أو مجموعة شباب ويملؤوا رؤوسهم بالحقد والكراهية ضد مناضل يساري يقول بالعلمانية، وبضرورة إبعاد الدين عن السياسة، خاصة عندما يكون هذا المناضل جريئا في التعبير عن آرائه انطلاقا من إيديولوجيا يسارية راديكالية، ثم يجري شحن صدور الشباب ضد اسم بعينه، ثم يطلقونهم بفتوى جاهزة لينفذوا العملية دون وجود أوامر مباشرة بذلك، ودون وجود ارتباطات تنظيمية واضحة، ويستحسن أن يكون الشاب الذي جرى إعداده للعملية قد سبق له أن مر من إحدى خلايا حزب النهضة أو من إحدى واجهاتها (شيء من هذا وقع في حادثة اغتيال المناضل اليساري عمر بنجلون، الذي لم يحاكم سوى منفذي جريمته، أما مهندسوها فلم يحاكموا إلى الآن). الكثير من الاتجاهات السلفية معرضة اليوم لتكون قنابل موقوتة تحركها أجهزة مخابرات دولية أو عربية لا تريد فقط رأس مرسي أو الغنوشي، وغيرهم من رموز الإسلام السياسي المعتدل، بل تريد رأس هذا الربيع الذي أصبح يسمح للشعوب بأن تتوجه إلى صناديق الاقتراع في الصباح لتنتخب من يحكم في المساء. هذا هو المستهدف.. الصندوق الذي تخرج منه الإرادة الشعبية. مرسي والغنوشي وآخرون لم يسرقوا الحكم في غفلة من الناس، بل جاؤوا عن طريق صناديق الاقتراع، وهم بالقطع ليسوا ملائكة ولا مخلوقات مصنوعة من الديمقراطية 100 في المائة. هم أبناء هذه التربة التي تعاني أعطابا كثيرة في الثقافة والاجتماع والسياسة، لكنهم يتعلمون. راشد الغنوشي، المتهم بأنه قاتل شكري بلعيد، لم يستعمل العنف حتى وهو مضطهد لأكثر من 20 سنة في لندن وثلاثة أرباع حركته في السجن، وهو نفسه الذي خاض معركة شرسة في مؤتمر حزبه الأخير لكي يقنع أبناء النهضة بأن لا حاجة إلى التنصيص على الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع، حتى لا يدفع التونسيين إلى الخوف من الإسلاميين. المستهدف اليوم من خطط إجهاض مسلسل الثورات العربية، الذي انطلق بأشكال كثيرة ومليارات ضخمة وإعلام له نيران كثيرة.. المستهدف الحقيقي هو مسار التحول الديمقراطي وليس لحى الإسلاميين.