نسي "اشْعَيبة" كل شيء .. أجَّل مشاغله ومشاكله المزمنة وأحلامه اليومية، وأسرع مهرولا إلى المقهى القريب من سكناه، ليحجز مقعده المألوف قريبا من جهاز التلفاز، خاصة في هذا الموعد المشهود. تكدًّس، كالعادة، إلى جانب أشباهه، الذين تزورهم حُمَّى الروح الوطنية بين الحين والحين. مباراة مصيرية، حاسمة، قاتلة .. تُرهب "اشعيبة' وأشباهَه، وتزرع في قلوبهم الرعب والهلع. خصم عنيد .. جمهور هائج، يبهر الخصوم بألوانه وأقنعته وطقوسه البدائية، وزمَّاراته التي لا تتوقف عن الإزعاج. لكن هيهات أن يتزعزع إيمان " اشعيبة" بالنصر المبين، بالرغم مما قيل وما يقال.. قيل إن المنتخب ضعيف، مفكك الخطوط، يقضي زمن المباراة تائها، حائرا، يلهث شارد الذهن، بدون عزيمة أو روح. قيل إن الناخب المُدجَّجٍ بالمساعدين والخبراء والمرافقين العديدين، مهذار، تغويه الصحافة، ولا يكف عن الإدعاء والدعاء، والجلوس والوقوف، ولا يهمه إلا إثبات الذات. كثر القيل والقال، تناسل المعلقون والمحللون، والحاقدون والشامتون والنخاسون وتجار الأوهام. قيل وقيل وقيل، و"اشعيبة" صامد في إيمانه، ثابت على موقفه، لا يعير للقيل أي اهتمام. تأتي الساعة الموعودة. يدخل الفريقان إلى الميدان. الترقب سيد الموقف، الأذهان مشحونة، العيون جاحظة، الأنفاس متقطعة، وقلبُ "شعيبة" يكاد ينفجر. لم يُلق بالا إلى النشيد الوطني.. لم ينتبه إلى الأفواه المُطبقة، أو المتظاهرة بترديد النشيد، أو تلك التي لا تدري ما تقول. لا وقت عند "اشعيبة" للانتباه إلى هذه الجزئيات البروتوكولية، وليست من مسؤولياته. تنطلق المباراة. يفارق "اشعيبة" المكان، ينفصل عن جسده، ويفقد الإحساس بمحيطه. رأسه فارغ، إلا من طنين، وخليط من أصوات مبهمة: تعاليق، هتافات، ألفاظ بذيئة، صوت المعلق النشاز، صراخ النادل.. يخترق "اشعيبة" شاشة التلفاز، ويرحل بعيدا.. نحو الجزء الآخر من القارة السمراء، يحلق فوق سماء الملعب,,يحط فوق رؤوس اللاعبين، يتحسس أنفاسهم، يجس نبضهم، يرتدي ألبستهم، يتفقد أحذيتهم.. يتبع الكرة كالمجنون.. يتواجد في كل مكان، ينخرط في اللعب، ويتقمص كل الأدوار.. يشاهد، يهاجم، يدافع، يكسر هجومات الخصوم. تُسجل الإصابة الأولى في مرمى الخصم، يطير فرحا، يركن إلى الدفاع، يطول به الزمن، يتراخى.. تتلقى شباك فريقه إصابة التعادل، يغضب، يهاجم بشراسة، يجري ويلهث، يضغط ويضغط، يسجل إصابة ثانية.. يكبر الحلم.. لم تبق إلا دقائق معدودات.. يرمي بإحدى قدميه إلى الدور الثاني، ويدافع بالقدم الأخرى.. يضيع الأهداف..تتلقى شباكه في لحظة نشوة وسهو هدفا موجعا.. يرجع العداد إلى نقطة الصفر. لا بأس. لازالت الحظوظ قائمة.. الدقيقة الأخيرة.. الفرح يكاد ينفجر، الزغاريد تتأهب للانطلاق.. قلب "اشعيبة" يزداد خفقانا.. يغمض عينيه، يفتحهما.. ينزل الخبر كالصاعقة.. الإقصاء !!.. ينفلت الحلم من بين الأصابع.. تتجمد الهتافات في الحناجر.. تتسابق الدموع نحو الخدود.. يعم الصمت.. يتبادل الأشباه النظرات.. يغادرون المقهى بهدوء منْ ألِف الإحساسَ بالخيبة.. يجمع النادل الكراسي وبقايا أوان وكؤوس.. يظل "اشعيبة" متسمرا في مكانه كالجثة الهامدة.. يسود الظلام.. يتحسس "اشعيبة" وجهه.. يمسح دمعة جامدة على خده.. يقف مغمض العينين.. يجر رجليه في خطوات بطيئة.. يعبر الشارع في ذهول.. والأفكار تتصارع في رأسه. رباه! لا يكاد يصدق.. بل أنَّى له أن يصدق؟ مستحيل أن تتبخر الوعود والأماني. هل يمكن، وبهذه السهولة، أن تذهب الجهود والأموال الوفيرة، والاستعدادات والبرامج والخطط الجهنمية، والمقاربات السيكولوجية والفيسيولوجية، سُدى؟.. لا. لا. لا يمكن أن يكون قد راهن على أبطال من ورق.. يدلف "اشعيبة" إلى غرفة نومه، غير عابئ بشيء أو بأحد.. يرتمي في فراشه، ويهرب في نوم عميق.. في الطرف الآخر من دماغه تستمر المباراة.. يجد "اشعيبة" نفسه في قلب المعركة، يتسلم الكرة من زميله وينطلق في الهجوم.. يراوغ الخصوم والرفاق والذات والجمهور.. يسجل الهدف تلو الآخر.. يفوز في المقابلة تلو الأخرى .. يتوج بطلا.. يستقبل استقبال الفاتحين.. تهتف الجماهير بحياته .. يرد الهتاف .. يصيح ويصيح ويصيح .. تسمع زوجته الصياح، تهب خائفة، وتهرع نحوه، تحرك جسده " اشعيبة، اشعيبة.. أفق .. باسم الله عليك.." .. ينهض "اشعيبة" مذعورا، يتصبب عرقا، وزوجته تنظر إليه في حسرة وأسف، وهي تخاطبه في نفسها: " أيعقل كل هذا؟ أيعقل ان تترك الحاجات الحقيقية، والضرورات الملحة، وتلهث وراء السراب.. وراء العبث والقيل والقال ..؟ " تنظر إليه في حسرة وتنسحب. يعود "اشعيبة" ليرتمي في أحلامه البطولية، ويغرق في نومه العميق. [email protected]