هل بالفعل أبان مفهوم التأويل الديموقراطي عن محدوديته في ضخ روح ديموقراطية داخل الدستور الجديد؟ وهل يمكن القول بأن هذه العملية استنفذت أغراضها، وأبانت عن عجزها في ترميم البناء الدستوري الذي لم يستجب تماما لتطلعات القوى الحية في دستور ديموقراطي يكرس قواعد النظام البرلماني كما هو متعارف عليه في الأنظمة الدستورية الحديثة ؟ أعتقد بأن الجزم بمحدودية الدور الوظيفي لمفهوم التأويل الديمقراطي سابق لأوانه، مادمنا لم نستكمل بعد جميع مراحل اللحظة التأسيسية، ومادام جدول الأعمال التشريعي مقبل على محطات هامة تتمثل في صياغة القوانين التنظيمية. المشرع المغربي يستعد للحسم في العديد من القوانين التنظيمية وهي قوانين هامة تتعلق بقضايا حيوية من قبيل القانون التنظيمي لتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، والقانون التنظيمي لسير عمل الحكومة والقانون التنظيمي للمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية والقانون التنظيمي لشروط وكيفيات التقدم بملتمسات في مجال التشريع من طرف المواطنين والمواطنات والقانون التنظيمي لشروط وكيفيات ممارسة حق المواطنين في تقديم عرائض إلى السلطات العمومية، والقانون التنظيمي لتحديد شروط ممارسة الحق في الإضراب، والقانون التنظيمي للجان تقصي الحقائق والقانون التنظيمي للمالية والقانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية وقوانين تنظيمية أخرى بالغة الأهمية.. حينما نتحدث عن التأويل الديموقراطي للدستور فمعنى ذلك أن هناك تأويلات غير ديموقراطية لمضامين الدستور يمكن أن تسهم في إفراغ الدستور من محتواه الديموقراطي، وقد أبانت الممارسة عن اختلالات واضحة في هذا الباب..في غياب اليقظة المطلوبة لحماية مكتسبات اللحظة الدستورية الراهنة. خطورة القوانين التنظيمية وأهميتها تكمن في كونها تحتل المكانة الثانية في تراتبية القوانين بعد الدستور، وهي قوانين مكملة للدستور تقوم بتفصيل المواد التي وردت فيه على سبيل الإجمال. ولذلك فإن القوانين التنظيمية إذا تمت صياغتها بخلفية ديموقراطية فسنكون أمام نصوص تؤسس لانتقال ديموقراطي حقيقي وتسهم في استكمال بناء دولة المؤسسات والقانون، وإذا تمت صياغتها بعقلية قديمة فإننا سنكون أمام عملية إفراغ الدستور الجديد من محتواه الديموقراطي، وهي نتيجة محبطة بالنسبة للذين دافعوا على دستور 2011 عن قناعة واعتبروه يؤسس لملكية ثانية.. عندما كنا ندافع على الموقف القاضي بالتفاعل الإيجابي مع مشروع الدستور الجديد، فلإدراكنا بأن مشروع الوثيقة الدستورية يتضمن الكثير من عناصر التطور مقارنة مع دستور 1996، لكن كنا دائما نربط ذلك بالتأويل الإيجابي للدستور، وقد أكد البيان الصادر عن المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية بعد مناقشة مضامين الدستور يوم 18 يونيو على "أن أي نص دستوري مهما كانت جودته لن يؤتي ثماره المرجوة في غياب ثقافة ديموقراطية تسري في مفاصل الدولة والمجتمع، ودون فاعلين سياسيين ديموقراطيين وأكفاء قادرين على تنزيل مضامينه على أرض الواقع، ومن خلال الدفاع عن أكثر التأويلات ديموقراطية لنصوصه".. وهو ما يعني أن التأويل الديموقراطي ينصرف إلى تفسير معين من بين تفسيرات أخرى ممكنة، لكن الذي يميزه هو انتصاره للفهم الديموقراطي، أي للتفسير الذي يتلاءم مع مفهوم الديموقراطية كقيمة كونية لها تطبيقات معروفة. اليوم هناك حاجة ملحة إلى ضرورة الانتباه إلى الممارسة ورصد التطبيق العملي لمقتضيات الدستور ومدى ملاءمته للتأويل الديموقراطي للدستور، وعدم الاكتفاء بالقراءة النظرية للنص، ومحاكمة الممارسة إلى مفهوم التأويل الديموقراطي الذي تم التعاقد بشأنه بين الجميع، خاصة وأن النص الدستوري الذي بين أيدينا يتيح إمكانيات هائلة للمضي في هذا الاتجاه. طبعا النص الدستوري كوثيقة جامدة يحتاج بالإضافة إلى القراءة القانونية، إلى امتلاك أدوات التحليل السياسي، حتى نصل إلى قراءة واقعية ومتوازنة ، قراءة لها علاقة بالسير اليومي للمؤسسات وتراعي مستلزمات التكيف الضرورية بالنسبة لجميع الفاعلين، وليست قراءة قانونية جامدة. بعض المناضلين الشرفاء يتطوعون لقراءة النص الدستوري الحالي قراءة سياسية "عدمية"، ويزهدون في استثمار عناصر التقدم الموجودة في اللحظة الدستورية وفق مفهوم التأويل الديموقراطي، وهم بذلك يقدمون خدمة مجانية للقراءات المحافظة الموجودة داخل الدولة، ويلتقون معها موضوعيا في الهدف النهائي: إجهاض التجربة الحالية وفسح المجال أمام قطار الاستمرارية ليستأنف لطريقه، بعدما اضطر للتوقف على إيقاع الربيع العربي واحتجاجات حركة 20 فبراير المجيدة...طبعا في غياب مشاريع واضحة وناضجة للتغيير السياسي والاجتماعي..