في السياق المغربي لا يكفي أن نتوفر على وثيقة دستورية مكتوبة متقدمة عن سابقاتها حتى نطمئن على المسار الديموقراطي لبلادنا، ذلك أن الممارسة العملية تكشف على وجود تصرفات تتجاوز روح الدستور ومنطوقه بشكل مباشر، وهو ما يعني أن هناك معوقات بنيوية تعوق التطبيق السليم للدستور. بعض هذه المعوقات مرتبط بالنص الدستوري نفسه الذي يفتح الاحتمال لتأويلات غير ديموقراطية لبعض مقتضياته، وبعضها الآخر مرتبط بمدى توفر الإرادة السياسية لاعتماد أقصى التأويلات ديموقراطية، ومدى قدرة الفاعل المركزي على التكيف السريع مع دستور 2011، والبعض الآخر مرتبط بمكونات الساحة السياسية ومدى قدرتها على توفير الشروط المطلوبة للترافع من أجل التطبيق الديموقراطي للدستور. يتذكر الجميع أنه منذ التصويت الإيجابي على الدستور الجديد يوم فاتح يوليوز، تنبه البعض إلى أن الإيجابيات الواردة في دستور 2011 تتطلب إعمال أدوات التأويل الديموقراطي للدستور، وقد تفاعل الخطاب الملكي مع هذا المعنى حينما اعتبر بمناسبة خطاب العرش "أن أية ممارسة أو تأويل، مناف لجوهره الديمقراطي يعد خرقا مرفوضا ومخالفا لإرادتنا، ملكا وشعبا". حينما نتحدث عن التأويل الديموقراطي للدستور فمعنى ذلك أن هناك تأويلات غير ديموقراطية لمضامين الدستور يمكن أن تسهم في إفراغ الدستور من محتواه الديموقراطي.. عندما كنا ندافع على الموقف القاضي بالتفاعل الإيجابي مع مشروع الدستور الجديد، فلإدراكنا بأن مشروع الوثيقة الدستورية يتضمن الكثير من عناصر التطور مقارنة مع دستور 1996، لكننا كنا دائما نربط ذلك بالتأويل الإيجابي للدستور، وقد أكد البيان الصادر عن المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية بعد مناقشة مضامين الدستور يوم 18 يونيو على "أن أي نص دستوري مهما كانت جودته لن يؤتي ثماره المرجوة في غياب ثقافة ديموقراطية تسري في مفاصل الدولة والمجتمع، ودون فاعلين سياسيين ديموقراطيين وأكفاء قادرين على تنزيل مضامينه على أرض الواقع، ومن خلال الدفاع عن أكثر التأويلات ديموقراطية لنصوصه"..إذن معضلة النص الدستوري لا يمكن حلها إلا بالتزام جميع الأطراف باعتماد منهجية التأويل الديموقراطي للدستور على ضوء المبادئ العامة للقانون الدستوري وعلى ضوء التجارب الديموقراطية المقارنة. ذلك أننا أمام تراكم من الممارسات المتشبعة بروح التقليد المحكومة بنص دستوري وبثقافة سياسية لم تكن تعطي أي قيمة لمفهوم المحاسبة على ممارسة السلطة ولم تكن تعلي من قيمة الصوت الانتخابي الذي يعتبر أساس المشروعية في جميع البلدان الديموقراطية بحيث كان من الممكن تعيين وزير أول من خارج صناديق الاقتراع، والمفارقة أن الأحزاب السياسية كانت تصفق لهذا التعيين !!.. وكان الفصل 19 من الدستور القديم يخضع لتأويل متعسف يمنح للملك بموجبه حق التشريع، وكانت العديد من حملات التطهير تستند إلى قرارات سياسية فوقية لا تحترم قرينة البراءة والقوانين الجاري بها العمل في هذا الباب... اليوم نحن أمام دستور جديد، لكن الثقافة السياسية التي تصاحبه لازالت تنهل من معين قديم، وهو ما يستلزم ضرورة التنبيه إلى أن تفعيل الدستور الجديد يستلزم ثقافة سياسية مواكبة متشبعة بمبادئ الممارسة الديموقراطية الحديثة وعلى رأسها سمو الوثيقة الدستورية وسمو مبادئها الكبرى كمبدأ الفصل بين السلط ومبدأ ربط المسؤولية بالمراقبة والمحاسبة.. لنكن صرحاء، لا يمكن للدستور الجديد أن يكتسب مفعوله الديموقراطي المنشود إذا لم تتخلص المؤسسة الملكية من طابعها التنفيذي، ولم تتحرر من ثقل بعض الممارسات التي تنتمي إلى ما قبل دستور فاتح يوليوز.. لقد أسس خطاب 9 مارس التاريخي إلى إمكانية دخول المغرب في مسلسل إصلاحي تدرجي هادئ بعد المبادرة الملكية بإصلاح الدستور وهي المبادرة التي تفاعلت بشكل إيجابي مع التطلعات الشعبية وضمنت للمغرب أن يحافظ على مكتسباته في الوحدة والاستقرار ووضعت بلادنا على سكة الملكية الثانية وهي أفق واعد وتاريخي واستراتيجي من شأنه أن ينقل بلادنا من دولة التحكم إلى دولة في خدمة الشعب قائمة على التعاون والتشارك بين جميع مكوناتها خدمة للصالح العام. من بين المعوقات أيضا، وسط حزبي يجر إلى الخلف ولا يعبر عن الأهلية المطلوبة لكسب هذا الاستحقاق التاريخي، ولا زال يعاني من أمراض خطيرة لا يمكن أن يتعافى منها إلا بعمليات جراحية ضرورية لاستئصال داء الأنانية والطموحات المتضخمة للعديد من القيادات الحزبية. ومن المؤسف في غياب وصفات سريعة للعلاج من هذه الأمراض أن تلجأ بعض الأحزاب إلى لغة سياسية لا تواكب استحقاقات دستور 2011 بقدر ما تعيد إنتاج خطابات سياسية تساهم في تعقيد الصورة أمام الرأي وتساهم في فقدان الثقة في المؤسسة الحزبية وفي المؤسسات الوسيطة وفي المؤسسات التمثيلية بشكل عام، فتلجأ إلى تبخيس عمل الحكومة والبرلمان والتنويه التلقائي بالمبادرات الملكية، وكأننا في حقل للتنافس بين المؤسسة الملكية والحكومة..وهنا أيضا لنكن صرحاء: لا مجال للتنافس بين المؤسسة الملكية ومؤسسة الحكومة، والمطلوب شراكة فعالة بين جميع المؤسسات كخيار استراتيجي، شراكة قوامها الثقة المتبادلة وعنوانها العريض: احترام مقتضيات الدستور وفق أقصى التأويلات ديموقراطية.