يتذكر الجميع أنه منذ التصويت الإيجابي على الدستور الجديد يوم فاتح يوليوز، تنبه البعض إلى أن الإيجابيات الواردة في دستور 2011 تتطلب إعمال أدوات التأويل الديموقراطي للدستور، وقد تفاعل الخطاب الملكي مع هذا المعنى حينما اعتبر بمناسبة خطاب العرش ّأن أية ممارسة أو تأويل، مناف لجوهره الديمقراطي يعد خرقا مرفوضا ومخالفا لإرادتنا، ملكا وشعبا". وحينما نتحدث عن التأويل الديموقراطي للدستور فمعنى ذلك أن هناك تأويلات غير ديموقراطية لمضامين الدستور يمكن أن تسهم في إفراغ الدستور من محتواه الديموقراطي.. الدستور الجديد يتضمن تسعة عشر قانونا تنظيميا، وهي قوانين هامة تتعلق بقضايا حيوية من قبيل القانون التنظيمي لتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، والقانون التنظيمي لسير عمل الحكومة والقانون التنظيمي للمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية والقانون التنظيمي لشروط وكيفيات التقدم بملتمسات في مجال التشريع من طرف المواطنين والمواطنات والقانون التنظيمي لشروط وكيفيات ممارسة حق المواطنين في تقديم عرائض إلى السلطات العمومية، والقانون التنظيمي لتحديد شروط ممارسة الحق في الإضراب والقانون التنظيمي للائحة المؤسسات والمقاولات الاستراتيجية والقانون التنظيمي لمجلس النواب والقانون التنظيمي لمجلس المستشارين والقانون التنظيمي للجان تقصي الحقائق والقانون التنظيمي للمالية والقانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية وقوانين تنظيمية أخرى بالغة الأهمية.. خطورة القوانين التنظيمية وأهميتها تكمن في اعتبارها تحتل المكانة الثانية في تراتبية القوانين بعد الدستور، وهي قوانين مكملة للدستور تقوم بتفصيل المواد التي وردت على سبيل الإجمال في الدستور. ولذلك فإن القوانين التنظيمية إذا تمت صياغتها بخلفية ديموقراطية فسنكون أمام نصوص تؤسس لانتقال ديموقراطي حقيقي وتسهم في استكمال بناء دولة المؤسسات والقانون، وإذا تمت صياغتها بعقلية قديمة فإننا سنكون أمام عملية إفراغ الدستور الجديد من محتواه الديموقراطي، وستكون عملية محبطة بالنسبة للذين دافعوا عن دستور 2011 عن قناعة واعتبروه يؤسس لملكية ثانية.. عندما كنا ندافع على الموقف القاضي بالتفاعل الإيجابي مع مشروع الدستور الجديد، فلإدراكنا بأن مشروع الوثيقة الدستورية يتضمن الكثير من عناصر التطور مقارنة مع دستور 1996، لكن كنا دائما نربط ذلك بالتأويل الإيجابي للدستور، وقد أكد البيان الصادر عن المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية بعد مناقشة مضامين الدستور يوم 18 يونيو على "أن أي نص دستوري مهما كانت جودته لن يؤتي ثماره المرجوة في غياب ثقافة ديموقراطية تسري في مفاصل الدولة والمجتمع، ودون فاعلين سياسيين ديموقراطيين وأكفاء قادرين على تنزيل مضامينه على أرض الواقع، ومن خلال الدفاع عن أكثر التأويلات ديموقراطية لنصوصه".. انطلاقا من هذه المقدمات فإن كل من البرلمان والحكومة يتحملان اليوم مسؤولية كتابة نصف الدستور وهي مسؤولية كبيرة جدا تحتاج باستمرار إلى استحضار التأويل الديموقراطي للدستور... لكن بقراءة سريعة إلى مشروع القانون التنظيمي رقم 02.12 المتعلق بتفعيل المواد رقم 49 و92 من الدستور، وهي النصوص التي تحيل إلى المجلس الوزاري الذي يترأسه الملك والذي يقوم بالتعيين باقتراح من رئيس الحكومة في عدد من الوظائف المدنية وكذا المسؤولين عن المؤسسات والمقاولات الاستراتيجية، يمكن أن نسجل بعض الملاحظات: مشروع القانون التنظيمي حدد لائحة المؤسسات الاستراتيجة في 20 مؤسسة ولائحة المقاولات الاستراتيجية في 17 مقاولة استراتيجية، الملاحظة الأساسية في هذا الإطار أن المشروع لم يكلف نفسه عناء توضيح المعايير التي على أساسها صنفت هذه المؤسسات والمقاولات باعتبارها: استراتيجية. السؤال المطروح من طرف المراقب والباحث هو: ماهي المعايير التي استند عليها واضع مشروع القانون التنظيمي ليصنف على أساسها مؤسسات ومقاولات باعتبارها استراتيجية، وأخرى باعتبارها غير ذلك، مثلا على أي أساس استند المشرع لكي يصنف وكالة المغرب العربي للأنباء أو وكالة تهيئة موقع بحيرة مارشيكا مثلا باعتبارهما مؤسسات استراتيجية ولماذا لم يعتبر صندوق المقاصة كذلك؟ الملاحظة الثانية هي أن مشروع القانون التنظيمي المذكور استند في ديباجته إلى أحكام الفصل 42 من الدستور، واقتطف منها " أن جلالة الملك ھو ضامن دوام الدولة واستمرارھا والحكم الأسمى بين مؤسساتھا، والساھر على احترام الدستور وحسن سير المؤسسات الدستورية"، ونحن نعتبر تسلل هذا الفصل إلى نص تشريعي يذكرنا بالتأويل التعسفي للفصل 19 من دستور 1996 الذي تم توظيفه لسن مجموعة من التشريعات، وهو ما جر الكثير من الانتقادات على هذا الفصل في المرحلة السابقة، والاستناد عليه في هذا المشروع يتعارض مع التأويل الديموقراطي للدستور، على اعتبار أن المعاني السامية الواردة في هذا النص تبقى مرتبطة بالوظائف التحكيمية والسيادية الكبرى التي يتولاها الملك باعتباره رئيس الدولة. الملاحظة الثالثة هي غياب الإشارة إلى سلطة رئيس الحكومة على مديري المؤسسات والمقاولات العمومية الاستراتيجية وامتلاكه الحق في إعفائهم كما يمتلك سلطة اقتراحهم.. إن هذه الملاحظات نابعة من ضرورة تجاوز السلبيات السابقة التي كانت تمنح للبعض حصانة معينة "نابعة" من التعيين الملكي، وأسست لثقافة الإفلات من المراقبة والمحاسبة، والعمل على تفعيل المبدأ الدستوري الهام الذي يربط بين المسؤولية والمحاسبة، وهو المدخل الضروري لتأسيس منهجية استباقية تتجاوز شعار مكافحة الفساد، وتمهد لمقاربة جديدة تعتمد على التأويل الديموقراطي للدستور للوقاية من الفساد قبل وقوعه.. والله أعلم.