في الغرب، خاصة الأنكلوسكسوني، ليس ثمة حاجة الى مصطلح «الملكية البرلمانية» داخل المعجم السياسي و الدستوري الناظم لمفردات التداول العمومي ،فمفهوم «الملكية الدستورية» يفي بالغرض، إنه يشير الى الشكل الملكي لنظام الحكم ،في ذات الحين الذي يرمز الى مضمونه الديمقراطي، مضمون يرتبط باحتكام المؤسسات والسلط والمواطن الى وثيقة مكتوبة ،ترمز الى التعاقد السياسي والمجتمعي. تاريخ المسار الطويل للفكرة الديمقراطية ،داخل الملكيات الغربية ،مهر مفهوم «الملكية الدستورية» بكل المضامين المؤسسة للثقافة السياسية الليبرالية: مبدأ فصل السلط ، السيادة الشعبية، النظام التمثيلي وقيم المسؤولية السياسية. في هذا السياق فإن «الدستور» يعني تماما مسألة «تحديد» السلطة. ولاشيء دون ذلك، انه وثيقة وظيفتها الأصلية هي تقنين الاختصاصات، وضبط الصلاحيات وتدوين حدود العلاقة بين المؤسسات وأجهزة الحكم. مغربيا، ليس ثمة أي تطابق بين «الدستور» وبين فكرته الأصلية، كما طورتها الثقافة الديمقراطية الغربية، ثقافة «الدستورانية» حيث يمتزج الشكل بالمضمون، وحيث مبدأ سمو الوثيقة الدستورية ،يعني تكريس النص الدستوري كضمانة للشرعية الديمقراطية، وللتعاقد المجتمعي ،مما يجعل كل المؤسسات تمارس وظائفها في حدود «شكلانية» البنود المكتوبة للقانون الأسمى. إن مجال الوثيقة الدستورية ،عندنا لا يغطي كل شساعة مساحات النسق السياسي ،إذ طالما اعتبر الملك الراحل الحسن الثاني ،أن سلطاته وشرعيته سابقة عن الدستور نفسه، وأن الملكية هي من أنشأ الدستور و ليس العكس، مثل باقي المؤسسات، وأن مفهوما جوهريا مثل فصل السلط لا يعني المؤسسة الملكية، بل هو يتعلق فقط بما دونها من مؤسسات، وهذا ما يجعلنا ،أمام نسق سياسي تتعايش داخله شرعية الدستور، مع شرعيات أخرى ذات طبيعة «فوق قانونية» و «فوق دستورية». في إحدى دراسات محمد معتصم يلاحظ ان وضع المؤسسات الدستورية، لم يتميز فقط بتأخير فترة إقامتها الممتدة من 1955 إلى 1962، بل إن هذه المؤسسات ابتعدت من البداية عن فكرة الدستور والدستورانية الغربية ،بممارسة سياسة تقليدية قوامها حكم الإمامة الذي يجعل أمير المؤمنين فوق الدستور، لهذا أدى الانفصام بين التقنيات الدستورية الغربية ،والنظام الذي تعمل فيه إلى تميز القانون الدستوري المغربي، بالانفصام عن عالمه المفاهيمي الذي هو عالم الدستورانية، كما نجم عنه ضعف محتواه القانوني ومضمونه التنظيمي ومحدوديته من حيث «الفعلية «»L'effectivit?، ضعف الدستورانية سيقابله بالنسبة للأستاذ معتصم تشغيل «التقليدانية» التي يكثفها الفصل19من خلال تأويلاته ، التي تسمح بقراءة جديدة لكل النص الدستوري، بالعبارة الشهيرة للأستاذ عبد اللطيف المنوني. غير بعيد عن ذلك تعتبر الباحثة والأستاذة رقية المصدق، في تحليلها للمعطيات الدستورية، المغربية، أن هناك تعايشا للدستور الصريح وللدستور الضمني، هذا الأخير الذي يتعاظم دوره نتيجة التأويلات الملكية للنص الدستوري، هذه التأويلات التي أنتجت فصلا ضمنيا للسلط يتماشى مع ما تسميه بالمفهوم الملكي للملكية الدستورية. أما بالنسبة للأستاذ عبد اللطيف أكنوش، فالملكية وحدها تحتفظ بالصفة المؤسسية، وهذا ما أدى في رأيه إلى رمي باقي المؤسسات الأخرى (دستور - أحزاب...) في أحضان الغموض والمتغير والإشكالية، في حين يحظى الدستور في الدولة والمجتمعات الديمقراطية بقداسة مطلقة باعتباره القانون الأسمى الذي ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فهو مصدر الشرعية والمشروعية . لهذا اعتبر الأستاذ محمد الساسي أن المغرب يعيش مجازا دستوريا، لأن النص المكتوب عندنا، لا ينقلنا إلى مرحلة «تقييد» السلطة، ولا يكفل مبدأ تجزيء السلطة والمحاسبة على ممارسة السلطة، إذ أن النص المكتوب. حتى وإن سمي دستورا، فهو لا يؤسس الحكم على المشروعية الوضعية وعندما نتجاوز المشروعية الوضعية، تحت أي اعتبار من الاعتبارات، فإننا نفسح المجال لتجاهل الدستور ولإهماله، مهما تضمن من إيجابيات في شقه «العصري». إن دليلا آخر على ضعف الجانب المؤسسي للدستور المغربي، يتجلى في نقص عملية الدسترة نفسها، حيث هناك قواعد تتعلق بممارسة الحكم، ولكنها تبقى خارج التأطير الدستوري، وفي أحسن الأحوال فإن تأطيرها يبقى فضفاضا وقابلا للتأويل. ومن جهة أخرى- و بالرغم من وجود قضاء دستوري بصيغته الحالية- لا توجد هيأة عليا تملك مقومات الاستقلال عن كافة السلط وتختص في الرقابة على احترام الدستور، وقادرة على وضع حد لأي انتهاك، حيث تنفرد المؤسسة الملكية ، بالنسبة لبعض الباحثين ،بالسلطة الرئيسية في تفسير الدستور وتأويله، وتجعل نفسها حسب الظروف والحاجة إما داخل الدستور أو قبله وخارجه. هل تكون إذن مناسبة الاصلاحات الدستورية المعلنة، فرصة ل»دسترة الدستور»؟ وهل سيكون للمغاربة الدستور الذي يحدد السلطة؟ ويجسد فصل السلط؟ و ينقلنا من حالة التوزيع العمودي للسلط الى حالة الفصل الأفقي لها؟ ومن حالة هامشية الوثيقة الدستورية الى وضعية سموها؟ هل سيساهم تكريس الاختيار الحداثي بالانتصار للوضعية على حساب المقدس، وبالانتصار للمكتوب على العرفي؟ وبالحسم لصالح الشرعية القانونية الدستورية مقابل حالات الشرعيات فوق الدستورية؟ هل سيقدر للأستاذ المنوني ان يسهم في إعادة «إدخال» الفصل19 الى منطوق وحدود بنود الوثيقة الدستورية؟ بعد أن سبق أن كتب عن إمكانية تأويل هذا الفصل ،بشكل يقدم قراءة جديدة للدستور. هل سيقدر للأستاذ معتصم أن يسهم في إغناء الحمولة الدستورانية القانونية الحديثة للوثيقة الدستورية ؟بعد أن سبق أن نظر لفكرة «التقليدانية» التي تطبع نظامنا السياسي. إنها الأسئلة التي وحدها- نعم وحدها- ستحكم الاجابة عنها عن مدى التقدم ،الذي سننجزه في هذه المحطة ،من صيرورة البناء الدستوري و المؤسسي لبلادنا، محطة لا شك أنها تشكل امتحانا كبيرا للاختيار الديمقراطي الحداثي.