لقد كانت مرحلة المركزية الإدارية محطة ضرورية لبناء المؤسسات ورسم قواعد التنمية الاقتصادية و الاجتماعية للوطن، وبالمقابل دفع مسلسل اللامركزية الذي انخرط فيه المغرب على مدى السنين السابقة إلى الارتقاء بالجماعات المحلية إلى مرتبة الشريك و الفاعل المركزي في تحقيق التنمية المحلية و في صنع القرار المحلي. واعتبار الجماعات المحلية شريك رئيسي في المسلسل التنموي يرجع بالأساس إلى التحولات التي عرفتها الدولة و ما نتج عن تخليها عن بعض وظائفها، في مقابل الوظائف الجديدة التي أصبحت تمارسها في تدبير الشأن العام، كما أن تزايد حاجيات السكان وارتفاع وثيرة النمو الديمغرافي، إضافة إلى التوسع العمراني غير المتحكم فيه افرز مجموعة من الظواهر السلبية، التي أصبحت معالجتها تتطلب تدخلا مباشرا من الفاعلين المحليين المؤهلين لتشخيص الاحتياجات الحقيقية للساكنة و ترتيب الأولويات ومن ثم وضع المخططات الإستراتيجية الكفيلة بمعالجة الاختلالات و الارتقاء بإطار عيش المواطن و ذلك تجسيدا لسياسة القرب و تقريب الخدمات من المواطنين، فالجماعات المحلية لم تعد تلك الوحدات الترابية التي يقتصر دورها على تقديم بعض الخدمات اليومية البسيطة للمواطنين ، بل تعداه ليصبح لها دور فعال في تنشيط الحركة الاقتصادية و خلق الثروة و استثمارها في البنية التحتية و تأهيل المجال الحضري والرفع من جودة الخدمات استجابة لانتظارات المواطنين الواسعة. ولقد تميز التطور الذي عرفته المدن بالمغرب على مدى عقود من الزمن بظهور اختلالات عميقة و بروز تحديات كبرى و مشاكل معقدة: البطالة، ضعف البنية التحتية، السكن العشوائي، ارتفاع معدلات الفقر و الهشاشة ، ضعف وسائل النقل، أضف إلى ذلك نمو ديمغرافي ، توسع عمراني كبير و هجرة قروية ، كل هذا عكس مسلسل تمدن سريع و غير متحكم فيه ، مما افرز مجالا حضريا متنافرا يفتقد في بعض أجزائه لمقومات العيش الكريم. وإذا كانت السياسات العمومية قد أخفقت في العقود الماضية في الحد من الاختلالات السالفة الذكر، فان المسؤولية اليوم ملقاة على الجماعات المحلية لابتكار و إيجاد الأجوبة المناسبة و الملائمة للمشاكل المطروحة وفق مقاربة ترابية تشاركية ترتكز على خصوصيات التراب و تمكن من تنسيق جهود كل الفاعلين المحليين مع اعتماد مبادئ الحكامة الرشيدة. إذن كيف يمكن العمل على رفع تحدي تنمية المدن و جعلها فضاءات للاندماج وإنتاج الثروة و تقوية التماسك الاجتماعي و إحداث فرص الشغل؟ إن القراءة السالفة الذكر لواقع المدن تظهر أن التسيير المحلي الكلاسيكي لم يستطع مواكبة التحولات العميقة التي عرفتها المدن و التي أدت إلى انتشار الفقر وبروز ظواهر اجتماعية سلبية في محيط و أطراف المدن ، لذا أصبحت الحاجة ملحة لاعتماد سياسة تخطيط منسجمة تعتمد على تعبئة مختلف الفاعلين المحليين (مؤسسات عمومية و خصوصية، غرف مهنية، وكالات حضرية، مجتمع مدني...) قصد إعداد مشروع تنمية محلية مندمج قادر على مواجهة تحديات المدن و محيطها و كذا استشراف المستقبل مع استغلال كل الطاقات و الإمكانات المتاحة في المجال و كذا جعل المواطن في صلب عملية صنع القرار. لقد نص الميثاق الجماعي الجديد، على إعداد المخطط الجماعي للتنمية، تحقيقا للتنمية الاقتصادية و الاجتماعية و اعتبارا لدور التخطيط في استشراف المستقبل وفي ترجمة رؤى الفاعل السياسي المؤهل لإطلاق مسلسل التخطيط المجالي القائم على تصور مندمج للمجال بكل خصوصياته، مع ضرورة التكيف لإيجاد الأرضية المناسبة لأجرأة و تنفيذ السياسات العمومية على مستوى التراب، إذ الملاحظ اختلال تناسق حكامة هذه المخططات و السياسات الذي يجب معالجته باعتمادالآليات اللازمة لتفاعلها ضمن منظور استراتيجي شامل يتناسب مع المجال ويتجاوز النظرة القطاعية الضيقة. ويعتبر المخطط الجماعي للتنمية بمثابة خارطة طريق ووثيقة ترابية ذات أهمية بالغة تسطر الاختيارات الإستراتيجية للتراب في المجالات التي تتوافق مع حاجيات الساكنة وتحقق التنمية المستدامة بكل إبعادها . ولإنجاح هذا التدبير الاستراتيجي، و حتى نتمكن من الرقي بالمدينة لتصبح فضاءا لتجسيد التفكير الجماعي في قضايا الشأن العام في إطار من الإبداع و الابتكار ، لابد لنا من اعتماد منهجية علمية رصينة تعتمد على التشخيص الدقيق للاكراهات التي تضعف قدرة المجالس المنتخبة على القيام بدورها الرئيسي في صناعة المستقبل، و نخص بالذكر ما يلي: - غياب ثقافة التخطيط الاستراتيجي عند جزء مهم من الفاعلين المحليين؛ - ضعف الموارد البشرية المحلية المؤهلة لرسم سياسات ترابية مندمجة و لمواكبة القرار السياسي، مع غياب برنامج تكوين محددة الأهداف؛ - ضعف الإمكانات المالية مع الثقل الكبير الذي تشكله ميزانية التسيير؛ - عدم التوفر على بنك موحد للمعطيات يمكن من معرفة التشخيص الحقيقي للتراب و إبراز المشاكل الحقيقية للمواطنين؛ - عدم إيلاء الأهمية اللازمة لدور التنسيق و أثره في توحيد الرؤى وتجنب العمل المزدوج و توحيد الوسائل و تسطير نموذج تنموي موحد؛ - ضعف النسيج الجمعوي المحلي القادر على استكشاف الحاجيات وملامستها عن قرب ، والمساهمة في صنع القرار المحلي، إذ تبقى تدخلات المجتمع المدني في غالبها مشتتة في الزمان و المكان كما أنها تتسم بطابع الظرفية و تفتقد للبعد الاستراتيجي. إن الجماعات المحلية اليوم أصبحت قاطرة للتنمية الشاملة، و مرجعا لتطوير آليات التدبير الناجع من خلال التخطيط المحكم المبني على معطيات واقعية، والتنسيق الشامل الكفيل بإشراك كل الطاقات و المؤهلات في وقت كثرت فيه الحاجيات و تراجعت فيه الموارد. لذا، أصبح من الضروري التفكير اليوم، و على كل المستويات من اجل الدفع بالجماعات المحلية (ناخبا و منتخبا)، لمواكبة الإصلاحات العميقة التي تقوم بها مصالح الدولة قصد الارتقاء بجودة الخدمات المقدمة للمواطنين، و تفعيل البرامج المحددة الأهداف الرامية إلى الرفع من تنافسية الاقتصاد الوطني و تأهيله للحد من آثار الأزمات الاقتصادية المتتالية التي أصبحت تعرفها اقتصاديات الدول المتقدمة. إن اكبر تحدي يواجه التراب اليوم، يتمثل في صياغة نموذجه التنموي القائم على استغلال الثروات و الطاقات المحلية، و إشراك كل الفاعلين المحليين، وتوحيد تدخلاتهم وفق أهداف و مرتكزات هذا النموذج التنموي. و للحديث بقية... *أستاذ جامعي زائر