بعيدا عن هموم السياسة ووجع التحالفات و التناطحات الحزبية، وبعيدا عن صخب "العراك" السياسي المغربي، والذي لا يختلف أحيانا كثيرة عن المعارك الطاحنة التي تدور تقريبا بشكل يومي في "راس الدرب"، وقريبا من الواقع "المادي" الذي رسخ فينا مجموعة من المسلمات و العقد المرضية التي تستغل فرصتها للقفز إلى الواجهة بشكل مستفز أحيانا، أجدني هذه المرة مسكونا بوجع الكتابة من أجل شخص "أسطوري" يعيش بيننا وقريبا منا، لكن لغدر الزمن، تناسيناه وصار أكبر همنا ماقاله "بنكيران" وما يحضر له "شباط"، وماجادت به صناديق "الوردة" التي فقدت أريجها. في تكويننا السيكولوجي تربينا كمغاربة على احترام عدد محدود من المهن التي ارتبطت في مخيلتنا منذ كنا أطفالا صغارا، لا حول ولاقوة لنا حتى في رسم حاضرنا الفكري قبل مستقبلنا المهني، بالحضوة و القيمة الإعتبارية داخل المجتمع. كلنا يتذكر أحلامه الصغيرة التافهة حين كان يسأله معلم الصف الأول والثاني، وربما حتى الخامس، فيما يريد أن يكون مستقبلا؟، والجواب كان حينها ولازال و بكل براءة أريد أن أصبح دكتورا أو دكتورة، مهندسا أو مهندسة، فقط وحدها هذه الكلمات كانت تتردد بشكل طفولي على ألسنتنا،حتى ونحن لا نعي ماذا تعني هذه الكلمات التي ننطقها كببغاوات، فهي كانت مجرد كلمات نكون قد سمعناها من الأباء أو من أحد الأقرباء الثقيلي الظل. وأمام هذه التربية الناقصة طبعا، كونا جيلا، بل أجيالا منفصمي الشخصية، وربما أجيالا تعيش ضعفا إنسانيا على جميع المستويات، أجيالا لا يتضمن قاموسها من الأشخاص الذين يتوجب احترامهم وتقديرهم سوى الدكتور فلان والدكتورة فلانة أو ربما المهندس فلان وزميلته في المهنة فلانة، ولاشيء غير هذين الإسمين أو ربما الأربعة أسماء، فيما بقية المهن "بالزعط منها" وأصحابها لا يستحقون أدنى احترام. ربما سيتساءل الكثيرون حول ماذا أريد أن أصل إليه؟ وربما سيختلف معي الكثيرون وحق الإختلاف مكفول، لكن قبل أن يبدأ النقاش والقيل والقال ادعوكم لزيارة أول ميناء سيكون قريبا إلى مساكنكم، توقفوا للحظات وتمعنوا جيدا وستجدون أشخاصا من طينة أخرى، أشخاص لا يلبسون بذلات بيضاء، ولايضعون نظارات طبية، أشخاص يتذوقون مرارة الألم والمعاناة من اجل أن تأثثوا موائدكم بأصناف السمك وتصنعوا أمجادكم بالطرود المجمدة التي ترسل إلى أصحابكم موالين "الحال" و"وفكاكي لوحايل"، أشخاص قدر لهم أن يكون مورد رزقهم فوق كف عفريت ووسط الأهوال والمخاطر التي تتهددهم في كل رحلة صيد، أشخاص يسهرون الليالي الطوال لنستفيق نحن بعد نوم عميق ونتوجه إلى أقرب محل لبيع السمك، ونبدأ بتفجير مكبوتاتنا الداخلية و الشكوى من غلاء أثمنته متناسين أن وراء ذلك قصة أشبه إلى أسطورة سيزيف مع فرق واحد أن بطل قصتنا هو "البحار" أو البحري كما يحلو لنا كمغاربة تسميته. بعد التمعن في النظر ادعوكم للصعود إلى أول مركب صيد وعيشوا حياة "البحري"، تكدسوا وسط العشرات من "البحرية" في غرفة لا يتعدى طولها سنتمترات قليلة لأخذ ثواني وليس حتى دقائق من الراحة، وتناولوا مع "البحارة" علبة الطون و الكاشير بدل "السمك الطري" الذي يؤثث موائدنا كل يوم، وفي هذه اللحظة بالذات تذكروا المثل المغربي" جزار ومعشي باللفت". بعد الرحلة أدعوكم لمواصلة مرافقة "البحري" وهو يغادر الميناء في اتجاه المستشفى لأنه ربما احس بشيء يدغدغ رئتيه بعد ليلة باردة على سطح المياه، لا تتفاجؤا حين سيرفض حارس المستشفى السماح له بالدخول إلا بعد جهد جهيد، ولا تستغربوا حين سيستتبعه بعبارة" بحري وفيه لفهامة" لأن قاموسنا اللغوي و اللفظي جبل على احتقار الأخر الذي لا يحمل لقب "السي"، والذين يمتلكون قلوبا "هشيشة" فلكم العذر في أن تتركوا "البحري" يواصل رحلته داخل المستشفى لوحده لأن قلوبكم المرهفة لن تستطيع بعد مشاركة "البحري" كل قساوة الرحلة على مركب الصيد من اجل أن يتناول"الدكتور" وجبة متكاملة تتضمن أجود الأسماك، قلت لن تستطيع قلوبكم تحمل الإهانات المتتالية التي سيتحملها "البحري" بدءا من الممرض مرورا بالشاوش ووصولا إلى "الدكتور" في حالة ما إذا تنازل ورضي باستقبال "البحري". بعد خروج "البحري" سيجدكم في انتظاره لتكملوا معه الرحلة نحو سكنه، وتلك قصة أترك لكم ولمخيلتكم سحر اكتشافها لأنكم حقا ستصدمون. بعد هذه المشاهد ادعوكم لمراجعة النفس قليلا والتساؤل إن كان هؤلاء الأشخاص يستحقون الإنضمام إلى لائحة المحترمين وقائمة الموقرين؟ إن كانوا يستحقون أن نحني لهم هاماتنا ونقف لهم احتراما وتقديرا؟ تساءلوا مع أنفسكم بعيدا عن صخب الحياة ومظاهر النفاق الإجتماعي، وحاولوا مد أيديكم النظيفة لمصافحة "البحري" بعيدا عن النزعة الإحتقارية، ومعهم وبرفقتهم سنمد اليد للجميع، لكل من يساهم في بناء هذا الوطن، لكل من يعرق ويشقى من اجل أن يتواصل مشعل الحياة، وتذكروا دوما " أننا خلقنا من التراب ونأكل من التراب وسنعود يوما حتما إلا التراب بلا ألقاب ولا بطائق تعريف كتب عليها"السي فلان".. ملاحظة لها علاقة بما كتب أيها الدكاترة والمهندسون كلامي ليس هجوما عليكم، لأني احترمكم و أقدركم، لكنني كذلك أحترم إلى جانبكم وبنفس المستوى البحري و النجار و الصباغ وكل حر يأكل من عرق جبينه. [email protected]