خصص الباحث عبد الله ساعف كتابه الأخير لسرد حكاية وسيرة العسكري المغربي الذي شارك إلى جانب القوات الثورية الفيتنامية المقاومة للاستعمار. الكتاب الصادر حديثا عن منشورات "دفاتر سياسية" يحمل العنوان التالي: "حكاية أنه ما، سيرة جنيرال مغربي في حرب فيتنام"، وهو كتاب من الحجم الصغير يضم بين دفتيه ما يقارب 220 صفحة. ويتعلق الأمر في هذا التحقيق البحثي بمناضل في صفوف الحزب الشيوعي المغربي سابقا وأحد أعضاء لجنته المركزية، إنه امحمد بنعمر لحرش (1914-1971) الذي توجه إلى فيتنام بشكل سري في نهاية سنة 1945 بطلب من مؤسسته الحزبية كنوع من الاستجابة لطلب الزعيم الفيتنامي هوشي منه الذي رغب في استقدام عنصر حركي من هذا الحزب وتوكل له مهام إعداد وتاطير المقاتلين المغاربة الهاربين من لواء الجيش الاستعماري الفرنسي أو الذين قامت بأسرهم قوات "الفييت منه" (وهو الاسم الفيتنامي الذي يحيل على القوات الفيتنامية الثورية المكافحة من أجل الاستقلال عن فرنسا)، من جهة أولى. ومن جهة ثانية، العمل على استقطاب واحتواء العسكريين المغاربة المنضوين في إطار القوات الفرنسية. هذا السفر إلى المستنقع الفيتنامي، سيعود منه بنعمر إلى بلده، في نهاية الستينيات، برتبة جنيرال خبير بمختلف العمليات والمهام الاستراتيجية العسكرية. إلا أنه سرعان ما سيختفي بعد ذلك في ظروف وصفها الباحث ساعف بالغامضة. "" وتوقف الباحث عبد الله ساعف بكثير من التمحيص عند السيرتين الذاتية والنقابية والسياسية لهذا السياسي المغربي، وانكب على إبراز مختلف الملامح والعناصر المشكلة لشخصيته باعتباره "شخصية استثنائية، وشخصية أسطورية تتمتع بوجود استثنائي ونادر في الوسط السياسي والنقابي بالمغرب"، من منظور ساعف. وبالرغم من الغموض الذي لف بسيرة هذا الرجل فقد تمكن الباحث، بعد جهد جهيد كما أورد في مقدمته، من الوصول إلى كثير من المعطيات التي أوردها بكتابه، وذلك انطلاقا من: تحليل محتويات الصحافة العمالية الشيوعية لفترة الاستعمار، عقد عدد من اللقاءات المباشرة مع قرينة بنعمر والمسماة كامي كامليا التي أمدته بكم هائل من الذكريات والصور والوثائق، دراسة الجذاذات التي خصصها ألبير عياش لسرد حياة وتجربة ومغامرات بنعمر بالرغم من النسبية والحياد والعمل التقني الذي يميز هذه الجذاذات، جمع الكثير من الشهادات من أفواه رفاق بنعمر وأفواه الجنود المغاربة المشاركين في الحرب الهندية الصينية. وكان امحمد بنعمر لحرش قد ازداد سنة 1914 في بادية أمزميز القريبة من مدينة خريبكة، ينتمي إلى إحدى كبريات القبائل الأطلسية المقاومة لجحافل القوات الاستعمارية الفرنسية. ومن المحتمل- حسب إحدى مستخلصات ساعف- أنه شارك في التأطير النقابي للعمال المشتغلين في المحيط المنجمي للمدينة الفوسفاطية، وعرف عنه انضمامه إلى القوات الفرنسية أثناء حدوث الحرب العالمية الثانية والتي أنهى فيها مشواره العسكري بحيازته لرتبة مساعد أول، مما أكسبه قدرا مهما من الدربة والمراس العسكريين شأنه شأن العديد من المغاربة الذين التحقوا بالجيش الفرنسي في تلك المرحلة رافعين شعار:"كاجينا على الخبز والكاميلا". في الفيتنام التي ذهب إليها ردا على طلب هوشي منه بإيفاد مغاربي ماركسي ليقوم بلعب دور المربي السياسي لأسرى شمال إفريقيا الذين وقعوا في قبضة "الفييت منه"، سيطلق عليه الزعيم الفيتنامي لقب "أنه ما" الذي يعني بشكل حرفي الأخ الفر، وهو لقب يحمل أكثر من دلالة. هناك باشر بنعمر عدة عمليات بخصوص إصلاح أوضاع هؤلاء الأسرى لاسيما من الجانب الإنساني: تحسين النظام الغذائي، إنشاء أوراش وتعاونيات، تنظيم المباريات الرياضية، تنظيم الندوات التكوينية والحفلات الموسيقية...وتمثلت الغاية من وراء كل هذه التعبئة في "تكوين أطر الثورة الماركسية في دول المغرب الكبير" حسبما استنتجه ساعف. صحيح أن الكاتب قربنا، عبر هذا الكتاب وبطريقة التحقيق، من شخصية تكاد تكون مجهولة في السجل السياسي لبلادنا. كما أنه عرفنا على قيمة الوجود والدلالة لنموذج بنعمر، فضلا عن طرحه لكثير من الإشكاليات المفيدة على مستوى الدراسة التاريخية والسوسيوسياسية للبنية الحزبية بالمغرب من خلال حالة "الحزب الشيوعي المغربي" في ارتباطه بسيرة المناضل بنعمر لحرش. إلا أن بعض الملاحظات النقدية البسيطة تسجل على عمله هذا خصوصا في الجانب المنهجي والشكلي حيث حار المؤلف إزاء ترتيب كم المعطيات الوفيرة للكتاب على شكل فصول أو أبواب يمكن النفاذ إليها ببساطة إذ اعتمد تقنية الاسترسال. كما أنه، خاصة في الطبعات القادمة من كتابه، تنتظره مهمة فرز وتحليل الأرشيف الرسمي للدول التي زارها المناضل بنعمر الذي أبلى البلاء الحسن في تكوين حزبه، عاش من الداخل إحدى أهم التجارب الاشتراكية عبر العالم، عمر طويلا في دول تابعة للمعسكر السوفياتي قبل أن يهجر ويتنازل عن انتمائه الحزبي الأول في ختام مساره بعد أن عاش منفيا في الجزائر دون أن يقدر الكثيرون قيمته وقدرته سواء في المنفى أو داخل الوطن.