ارتفاع نسبة ملء السدود في المغرب    بوتين "يؤيد" هدنة لمدة 30 يوما في أوكرانيا لكن تعرقلها "خلافات دقيقة"    مستشار الرئيس الفلسطيني يشيد بالدعم الموصول للملك محمد السادس للقضية الفلسطينية    بايتاس يرفض التوضيح بخصوص "استغلال" شاحنة جماعاتية لأغراض انتخابية ويكشف حجم تصدير زيت الزيتون    الملك محمد السادس يهنئ قداسة البابا فرانسيس بمناسبة ذكرى اعتلائه الكرسي البابوي لحاضرة الفاتيكان    مجلس الحكومة يصادق على أسماء في مناصب عليا ضمنهم مديرة أكاديمية طنجة الحسيمة    التجسس الجزائري في فرنسا: سر مكشوف وتغيرات إقليمية تقلب الموازين    دوري أبطال أوروبا.. "ويفا" يدرس إجراء تعديل حول ركلات الجزاء بعد واقعة ألفاريس    أمطار قوية وتساقطات ثلجية وهبات رياح من الخميس إلى السبت بعدد من أقاليم المغرب    إلغاء رحلات بحرية بين موانئ بالمغرب وإسبانيا لسوء الطقس    جرائم فساد مالي تُلاحق زوجة هشام جيراندو    انقطاع دواء "الميثادون" يتسبب في هيجان المدمنين.. ومهنيو الصحة يطالبون بالحماية وتوفير البديل    ظاهرة فلكية نادرة مرتقبة فجر يوم غدٍ الجمعة    "المحكمة الدستورية تُقر قانون الإضراب وتُبدي تحفظات على ثلاث مواد    في ندوة «التمكين الاقتصادي للنساء ومساهمتهن في التنمية الاقتصادية والاجتماعية» بنيويورك .. لطيفة الشريف: تمكين المرأة اقتصاديا يرتبط بشكل كبير بوصولها إلى موارد مالية وتحسين الإطار القانوني والتشريعي    الفريق الاشتراكي يسائل الحكومة بشأن إعفاءات المديرين الإقليميين للتعليم    قناع الغرب.. البروتوكولات المضللة 12- الأكاذيب الآمنة في يد السلطة    مجلس الحكومة يطلع على اتفاقين دوليين موقعين بين حكومة المغرب وحكومتي بنين وأنغولا    مكاسب في تداولات بورصة البيضاء    تفاصيل تكاليف العصبة الاحترافية    أمطار قوية من الخميس إلى السبت    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    سفير الصين بالمغرب يكتب: الضغوط التجارية الأحادية لا تؤدي إلى أي نتيجة    الهواري غباري يؤدي "صلاة الخائب"    الحسيمة.. أمطار الخير تنعش منطقة أيت أخلال وتعزز الآمال في موسم زراعي ناجح    جديد دراسات تاريخ الأقاصي المغربية: التراث النوازلي بالقصر الكبير    أخبار الساحة    الوكالة المغربية لمكافحة المنشطات تكرم الدولي السابق محمد التيمومي    لمجرّد يكشف تفاصيل عمليته الجراحية ويطمئن جمهوره    المغرب يحتل المركز السادس عربيًا وإفريقيًا في الحرية الاقتصادية لسنة 2025    صحيفة إسبانية: المغرب فاعل رئيسي في قطاعي السيارات والطاقة المتجددة    فضل الصدقة وقيام الليل في رمضان    يسار يعرض "لمهيب" في مركب محمد الخامس    أزيد من 25 مليون مصل في المسجد الحرام خلال العشرة الأولى من رمضان    السعودية تسعى لإنشاء مختبر للكشف عن المنشطات والمحظورات في المنافسات الرياضية    برنامج إعادة إعمار إقليم الحوز يحقق تقدما ملموسا    مطالب للداخلية بالتحقيق في توزيع جمعية مقربة من "الأحرار" للمساعدات باستعمال ممتلكات الدولة    عدوى الحصبة تتراجع في المغرب    ماذا يحدث للجسم إذا لم يتناول الصائم وجبة السحور؟ أخصائية توضح    "حماس" ترحب بتراجع ترامب عن دعوة "تهجير سكان غزة"    بوريطة يستقبل وزيرة خارجية إفريقيا الوسطى حاملة رسالة إلى جلالة الملك من رئيس بلادها    توقعات أحوال الطقس ليوم الخميس    أداء الشعائر الدينيّة فرض.. لكن بأية نيّة؟    تعميم المنصة الرقمية "زيارة" على كل المؤسسات السجنية    الاحتراق الإبداعي..    دراسة: الوجبات السريعة تؤدي إلى تسريع الشيخوخة البيولوجية    المضيق-الفنيدق: حجز أزيد من 640 كلغ من المواد الغذائية الفاسدة    رسميًا الزمالك المصري يعلن تفعيل بند شراء محمود بنتايك    بوحموش: "الدم المشروك" يعكس واقع المجتمع ببصمة مغربية خالصة    أوراق من برلين .. قصة امرأة كردية تعيش حياة مليئة بالتناقضات    هذا ما صرح به الهيلالي للصحافة الإسبانية: رفضت البارصا مرتين و « سأكون أسعد شخص في العالم إذا تلقيت دعوة اللعب مع المغرب »    الفيفا … الاتحاد الذي لا يعرف الأزمات … !    الدوحة… التأكيد في اجتماع اللجنة الخماسية والمبعوث الأمريكي ويتكوف على مواصلة التشاور بشأن خطة إعادة إعمار غزة    وزارة الثقافة تفرج عن نتائج جائزة المغرب للكتاب    من الخليج إلى المحيط… المَلكيات هي الحلّ؟    دراسة: التغذية غير الصحية للحامل تزيد خطر إصابة المولود بالتوحد    أطعمة يفضل الابتعاد عنها في السحور لصيام صحي    بنكيران .. القرار الملكي لا يدخل ضمن الأمور الدينية وإنما رفع للحرج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البقالي: هل نسيء للوطن بعرض مآسيه ونخدمه بالتستر على الفساد؟
نشر في هسبريس يوم 07 - 11 - 2012

من دار الضمانة، سارَ شأنه شأن من رأوا النورَ دونَ أن يعثروا في أفواههم على ملاعقَ من ذهب أو يلفوا الطريقَ معبداً بالزهور، إلَى تحقيق حلم الإعلام الذي استوطنَ باله.
بعدَ أن حصل على شهادة البكالوريا في العلوم الرياضية بمدينته الجبلية وزان، توجه للدراسة في المعهد العالي للإعلام والاتصال في الرباط عامَ 1998، الذي تخرجَ منه سنة 2002 دونَ أن يوقفَ مسار التحصيل عند ذلك الحد، ليحصل إثرهَا على الماجستير عامَ 2006 في"موضوع صورة الإسلام في الإعلام الأمريكي من خلال مجلة "فورين بوليسي"، بينَما يستعدُّ اليوم لمناقشة أطروحة الدكتوراه في موضوع "الصحافة وتحولُ القيم في المجتمع المغربي" بجامعة محمد الخامس في الرباط.
في هذا الحوار مع هسبريس، يحدثنا محمد البقالي، العامل منذ 2006 مراسلاً لقناة الجزيرة القطرية، عن تجربته المهنية في أكثر من نقطة ساخنة، بعد مغادرته المغرب بسبب إغلاق مكتب قناة الجزيرة، كما يبسط رؤيته لسؤال المهنية في الإعلام، ولواقع الإعلام بالمغرب في ظل ما تعرفه المنطقة من حراك، كمَا يعربُ الإعلامي المغربي البارز عن إيمانه بحق العودة إلى الوطن، إن تحققت الشروط اللازمة لممارسة المهنة.
غادرت المغرب بعد إغلاق قناة الجزيرة، إلى السودان وجنوب السودان، ومنها إلى تونس، وبعد سقوط القذافي انجزت مجموعة تقارير من ليبيا، كيف كانت تجربة العمل خارج المغرب؟
تجربة العمل الصحافي خارج الوطن تفتح آفاقا أوسع لرؤية العالم من زاوية الشاهد عوض زاوية المتابع من بعيد. وليس من رأى كمن سمع كما قالت العرب قديما. وقد كان من حسن حظي أن تزامنت مغادرتي للمغرب مع تحولات كبرى يعرفها العالم العربي بدءا من انقسام السودان، وذاك جرح عميق في خاصرة العالم العربي لم ينتبه إليه كثيرون، إلى الثورات العربية التي غيرت مجرى التاريخ العربي المعاصر.
في السودان وفي جنوب السودان كانت التجربة غنية وصادمة في الآن ذاته. كانت غنية لأن السفر إلى جنوب السودان أشبه ما يكون بالسفر عبر الزمن، فكل مقاييس الزمن الحاضر تنتفي أو تتراجع إلى حدودها الدنيا إن على مستوى العمران أو على مستوى البنيات الاجتماعية أو أنماط الحياة المختلفة: أرض عذراء ببنية تحتية ضعيفة وعلاقات اجتماعية تحكمها تقاليد لم تتغير منذ مئات السنين، وظروف حياة قاسية جدا لا تمنع الناس من مواصلة الحياة رغم كل شيء.
هناك تتعرف إلى أن الفرد يجب أن يحمل اسم قبيلته وشما على وجهه، وأن اختلاف الدين لا يفسد للود قضية، ففي الأسرة الواحدة يوجد المسلم والمسيحي والوثني. ففي الجنوب خمسائة قبيلة، وديانات كثيرة أكثرها انتشارا هي الوثنية. والناس يتزوجون ما طاب لهم من النساء (الوجهاء قد يتزوجون خمسين إلى مائة امرأة)، والمرأة تلحق عند وفاة زوجها مباشرة بحريم أخيه في عميلة أشبه بالتوريث... وغيرها من العادات القديمة التي تؤطر الحياة الاجتماعية.
هناك أيضا تشاهد مأساة قارة تجتمع فيها كل المتناقضات: فتوفر الماء والأرض الخصبة واليد العاملة لم يمنع انتشار سوء التغذية. واحتضان الأرض للنفط لم يحل دون فقر البلد وبؤس أهله. هناك أيضا تتأمل في الحرب وكيف تعود بالناس قرونا إلى الوراء.
على هذا المستوى يمكن أن أتحدث عن تجربة غنية إنسانيا ومهنيا، لكن التجربة كانت صادمة أيضا: لأنه بعد خمسين عاما من الاستقلال عن الاستعمار البريطاني فشل النظام السوداني، ومعه النظام العربي، في نزع فتيل الانفصال الذي أشعله البريطانيون قبل رحيلهم في قلوب الجنوبيين. والنتيجة كانت كارثية: تصويت نحو 99 في المائة لفائدة الانفصال.
وهذه النسبة الساحقة تعني أن السودان لم يجد له أنصارا يدافعون عن الوحدة حتى بين المسلمين الذين تتحدث إحصاءات غير رسمية أنهم يقاربون العشرين بالمائة من سكان الجنوب.
كنت ألمس الحيرة والألم الذي يعتري المسلمين هناك: فهم من جهة يعرفون أن الانفصال سيجعلهم أقلية في بلدهم، لكنهم في الآن ذاته لم يروا من الشمال ولا من العرب والمسلمين ما يدفعهم للتشبث بالوحدة.
للأسف انفصل الجنوب، وطويت الصفحة، ورغم أن الحدث له ما بعده، فإن مر كأن لم يقع. ويكفي أن نذكر هنا أن أولى الخطوات الدبلوماسية لدولة الجنوب كانت تبادل السفارات مع إسرائيل بما يعني بكل بساطة إيجاد موطئ قدم لهذا الكيان الهجين في منطقة غرب النيل.
في تونس كانت الفرصة سانحة لمتابعة تطورات الثورة في مهد الربيع العربي، والتحولات غير المسبوقة في هذا البلد. والمهم في هذه المتابعة ليس فقط الأحداث السياسية الكبرى، بل التفاصيل الصغيرة: كيف أثرت الثورة على حياة الناس؟ على رؤيتهم للأشياء؟ ماذا يقع عندما يصبح الإنسان حرا في قوله وفعله؟ كيف يعيش الناس تفاصيل الانتقال من مرحلة الدكتاتورية إلى مرحلة الحرية؟
في تونس أيضا تكتشف بوضوح أكبر بشاعة الأنظمة العربية وقدرتها على التزوير والكذب. فصورة البلد المزدهر اقتصاديا تبين زيفها بمجرد قيام الثورة. تبين أن هناك تونس المركز ومدن الساحل، وتونس أخرى مختلفة تماما تشمل الأرياف ومدن الداخل: سيدي بوزيد وتالة والقصرين والشمال الغربي... وبينهما فوارق تكاد تجعل الزائر يجزم بأن الأمر لا يتعلق بنفس البلد.
في تونس أيضا يمكن أن تشهد بؤس جزء كبير النخبة المثقفة والسياسية وسقوطها المدوي في امتحان السياسة، حينما تعلو المكاسب السياسية على مصلحة الوطن.
في ليبيا كانت التجربة بطعم الحرب: وتغطية الحرب لها خصوصية تختلف عن أي تغطية أخرى، فالأمر فيها يتعلق بلحظات تماس بين الحياة والموت، وأنت فيها لست مجرد شاهد في الحدث بل مهدد في كل لحظة بان تصبح أنت الخبر نفسه: لأن الصواريخ والرصاص ومضادات الطائرات لاتميز بين محارب وصحافي.
والحرب في العادة تخرج أسوأ ما في الناس وأحسن ما فيهم: تخرج القدرة على القتل بدم بارد عند الطغاة، لكنها في المقابل تعلم الأحرار كيف يواجهون صواريخ بصدورهم وإيمانهم بالنصر وبما توفر من أسلحة.
وعلاوة على ذلك فتغطية الحرب هي تجربة نفسية عميقة لها ما بعدها، أشبه ما تكون بالتجربة الصوفية تعاش ولا توصف. كما أن الحرب أيضاً مأساة: مأساة الموت، مأساة الخراب، مأساة اللجوء، مأساة المفقودين، مأساة الجرحى، واليتامى والثكالى والأرامل... ولذلك صدق من قال: ما من شيء جميل في الحرب غير توقفها.
هل تنعم تونس بناءاً على استقرائك للوضع، بمنسوب حرية أكبر في العمل مقارنة مع المغرب؟
لا بد من الإقرار بدءا بأن أكبر مكسب جاءت به الثورة التونسية هي الحرية. بل يمكن الحديث على أن البلد انتقل من حالة الاستبداد المطلق إلى ما يشبه الحرية المطلقة، وهذا يشمل حرية التعبير وحرية الصحافة وحرية التجمع وحرية الاحتجاج. يكفي هنا أن أذكر أن أكثر الناس تعرضا للانتقاد (الجارح أحيانا وحتى غير الأخلاقي أحيانا أخرى) هو الرئيس المنصف المرزوقي وفي وسائل إعلام عمومية تملكها الدولة. وهو نفسه عبر عن تقبله لهذه الانتقادات على مرارتها معتبرا ذلك جزءا من تمرين الديموقراطية التي يجب أن يخضع لها الجميع في البلد.
وطبعا لا يمكن أن نقيس على هذا المستوى بين المغرب وتونس ، فلا قياس مع الفارق كما يقول الفقهاء.
في تونس اليوم، السؤال المطروح هو: ماذا نفعل بهذه الحرية؟ وكيف نتعامل معها؟
لأن التحول من الاستبداد إلى الحرية أشبه بالانتقال من الظلام إلى النور الساطع، يؤدي إلى إغلاق مؤقت للعين ريثما تتعود بالوضع الجديد قبل فتحها على رؤية أوضح وأفضل.
وعندما يتعلق الأمر بمجتمعات لم تراكم تقاليد الحرية، وما يرافقها من قيم الاختلاف والتعايش والتنافس فإن ذلك يعقد من مهمة المرحلة الانتقالية ويجعلها أكثر صعوبة. لكن لنقل إن الشعب التونسي أنجز ثورته السياسية، وأعتقد أنه بصدد إنجاز ثورة أخرى فكرية ثقافية، وهذه مهمة تتطلب سنوات إن لم تكن عقودا. وآمل أن يقدم الشعب التونسي نموذجا على هذا المستوى.
ولذلك أعتقد أننا نحتاج في العالم العربي إلى ثورة فكرية وثقافية وأخلاقية بالقدر نفسه الذي نحتاج فيه إلى ثورات سياسية.
فمأساتنا في العالم العربي ليست هي في حكامنا فقط. جل الحكام فاسدون، والثورة عليهم فرض عين على الشعوب وليست فرض كفاية. لكن هذا لا ينبغي أن يمنحنا ذلك الاطمئنان الكاذب بأن الشعوب بخير.
يجب أن نقر بأن الشعوب أيضا تتحمل مسؤولية مأساتها، أولا بقبولها بالظلم وعدم خروجها على الظالم، وثانيا بمساهمتها في تفشي هذا الظلم كل حسب موقعه.
لقد تربينا جميعا في أحضان الاستبداد والفساد، ولم ننج تماما من أثار هذه التربية، كل منا ناله ما ناله من هذا الفساد والاستبداد.
كيف يمكن للإعلامي أن يتعامل مع القضايا الوطنية، في عمله داخل قنوات فضائية في الخارج قد لا تتبنى الأطروحة الرسمية دائماً؟
أعتقد أن هناك كلمتين تمثلان مفتاح جواب هذا السؤال: المهنية والضمير.
أن تشتغل بمهنية يعني أن تتعامل مع كل القضايا وفق ما تقتضيه قواعد المهنة من نزاهة وصدق ونقل للحقائق كما هي، وألا تتورط في التهوين أو التهويل ولا في التجني أو الدعاية والتطبيل. كل ذلك مع التزام كامل بأخلاقيات المهنة كما هيَ متعارف عليها عالميا.
والاشتغال بضمير يعني أن لا يتلقى قلمك تعليمات إلا من ضميرك، وأن لا تقبل أن يتم استعمال قلمك لتمرير أجندة أو حسابات تهم جهة ما على حساب الحقيقة حتى لو دفعت من أجل ذلك ثمنا. والصحافة مهنة ضمير بامتياز.
إذا استحضر الصحافي هذه المبادئ العامة في عمله، يكون قد أجاب عن هذا السؤال، ليس فيما يتعلق فقط بالوطن وإنما بكل القضايا التي ينتمي إليها : القضايا العربية والإسلامية، قضايا الشعوب المضطهدة، القضايا الإنسانية أينما وجدت.
وفي موضوع القضايا الوطنية أؤمن بأمرين:
أولا: أخدم وطني عندما أقول الحقيقة كاملة، ولا أكون بوقاً للدعاية لجهة أو حزب أو طائفة. وأنا أعرف أن وطني ليس بلدا مستعمرا (بكسر الميم) لبلد آخر، ولا معتديا على وطن آخر، وبالتالي فلا يضير وطني ولا يضيرني أن أذكر الحقيقة كاملة. بل أعتقد أن هذا بالضبط ما يحتاج وطني خاصة عند الحديث عن قضية الوحدة الترابية.
ثانيا: أخدم وطني عندما لا أرتبط مع السلطة ومع مراكز المال والنفوذ بعلاقة تتجاوز الحدود المهنية، التي يجب أن تربط بين أي صحافي وسلطة في العالم. عدا ذلك، فإن الصحافي يضع مهنيته على المحك، ويصبح عرضة للسقوط المهني والأخلاقي في مطبات الإغراءات والارتشاء والفساد.
والخطير في الأمر أن هذا السقوط المريع يضفي عليه بعض الصحافيين وبعض الماسكين بزمام السلطة صفة الدفاع عن مصلحة الوطن، والحقيقة أنه دفاع عن المصالح الشخصية لهؤلاء أما الوطن فمنهم براء.
وهنا يجب أن نطرح بعض الأسئلة: من هو المخول بالضبط بتحديد مصالح الوطن؟ وأين تكمن بالضبط هذه المصالح ؟ وهل مواقف السلطة هي التي تمثل دائما المصالح الحقيقية لهذا الوطن؟ ثم أي جناح من أجنحة السلطة يمثل الوطن فعلا خاصة وأن مصالحها غالبا ما تكون متضاربة؟
هل عندما نطرح قضايا الفساد التي ترغب السلطة في التستر عنها عادة في أي بلد في العالم، هل نكون أسأنا لمصلحة الوطن؟
وعندما ننقل صور قرى نائية يموت أطفالها بسبب البرد، هل نكون أسأنا لمصلحة الوطن؟
هل عندما ننقل آراء مغاربة آخرين يعارضون اختيارات السلطة: هل نكون أسأنا لمصلحة الوطن؟
هل عندما نتحدث عن الفساد والرشوة والظلم المستشري في البلاد ونعطي الكلمة لكل الأطراف المعنية بالموضوع.. هل نكون أسأنا للوطن؟
يقول البعض : لماذا تنظرون فقط إلى نصف الكأس الفارغ؟
أقول : الصحافي ليس مطالبا فقط بطرح مكامن الخلل، عليه أيضا أن ينتبه إلى مواطن الجمال والأداء الجيد والنصف الممتلئ من الكأس. لكن المشكلة أن السلطة في بلدان الاستبداد بشكل عام لا تقنع من الصحافي بالمهنية التي تفرض أن تُعرض الصورة بكل أبعادها، إنها ترغب في أن يتحول الصحافي إلى بوق للدعاية للجزء المملوء من الكأس (مهما كان صغيرا) والكذب بشأن الجزء الفارغ والقول إنه ممتلئ. هذا ما لا يرضاه أي صحافي شريف لنفسه.
تعلمنا أن الصحافي ليس "نكافة" مهمته تزيين العروس. وهو في الآن ذاته ليس عدوا للسلطة مهمته شيطنتها. هو ناقل للصورة بكل أبعادها.
وإذا اكتشف أحدهم أن صورته غير جميلة في المرآة، فليعلم أن كسر المرآة لن يغير من الحقيقة شيئا. سيبقى هو قبيحا وسيزداد قبحا بشناعة فعله.
للأسف الشديد السلطة في المغرب تقيم علاقتها مع الصحافيين بمنطق "معنا أو ضدنا،" بمعنى إما أن تنخرط ضمن صحافيي السلطة الذي يأتمرون بأمر جهات معلومة، أو أن تضع نفسك في مرمى نيرانهم.
ومالا تنتبه إليه السلطة هُوَ أن الصحافيين الذين يقبلون بهذه النوعية من العلاقة القائمة على الانخراط تحت جناحها والتحول إلى كتيبة تأتمر بأمر جهات معنية هجوما وقصفا وتشهيرا وقذفا: هذه النوعية هي أسوأ نوعية عرفتها الصحافة في تاريخها، وهؤلاء مرتزقة وليسوا صحافيين وهم مستعدون لبيع ضمائرهم وأقلامهم وتغيير ولائهم عند أول تحول.
وقد كنت شاهدا على هذه النوعية في تونس التي فجأة وبقدرة قادرة تحولت بعد الثورة إلى أقلام ثورية لايشق لها غبار ونظمت قصائد الغزل في الثورة بعدما قضت عمرها وهي تمدح في الاستبداد.
وهنا دعني أشير إلى ملاحظة لافتة: فمنذ عام تقريبا أصبحنا نرى أن القنوات المحلية (اتم ودوزيم) أصبحت تطرح قضايا من قبيل قضايا الأوضاع الاجتماعية الصعبة، وتمنح فرصا واسعة للمعارضة، وتتطرق في برامجها إلى قضايا كان الحديث عنها من قبل يعتبر إساءة للوطن. هذه خطوة مهنية جيدة ومهمة، لكن يجب أن يشرحوا لنا كيف وقع هذا التحول؟
كيف تقرأ واقع الأعلام المغرب في الفترة الراهنة؟
في المغرب كما في بقية بلدان العالم، يمكن أن نتحدث عن حضور قوي ومتطلع للمستقبل تسجله الصحافة الإلكترونية. فقد حققت هذه الصحافة حضورا كبيرا في الساحة الإعلامية، وغدت رقما أساسيا في المشهد الإعلامي لا يمكن تجاوزه بحال. سواء على مستوى المقروئية أو على مستوى التأثير في الرأي العام كما في صانع القرار.
وقوة الصحافة الإلكترونية مرتبطة أساسا بالتوجه الكوني نحو التكنولوجيا الحديثة، وأيضا بمجانيتها، وبسرعتها وبإتاحتها للقراء فرصة التفاعل. فأحيانا يصبح المقال أقل أهمية من الردود التي ترد عليه من القراء ( وإن كانت كثير من الردود غير بريئة وإنما تابعة لجهات معينة يهمهما توجيه الردود في اتجاه محدد، كما سنرى في بعض أو ربما كثير من التعليقات التي سترد على هذا الحوار).
لكن لا يمكن أن نتحدث عن الصحافة الإلكترونية بصيغة المفرد، هناك صحف إليكترونية حققت قفزة حقيقية وإضافة نوعية للمشهد الإعلامي، وهناك صحف تشكل حجر عثرة في طريق تطور هذا المشهد بسبب عدم حرفيتها وسقوطها المدوي في أخلاقيات المهنة.
بالنسبة للصحافة المكتوبة أعتقد انها حققت قفزة نوعية بالمقارنة مع واقع الصحافة في بلدان عربية بلدان عربية كثيرة. إن على مستوى المضمون أو على مستوى الشكل (الإخراج)، والفضل يعود للصحافة الخاصة (التي تسمى مستقلة). لكن هامش الحرية الذي كان يبدو معقولا قبل الثورات العربية يبدو الآن وقد غدا محدودا بالمقارنة مع بلدان الربيع العربي. فهو في النهاية يبقى مجرد هامش، والهامش يفترض أن يخصص للرقابة وليس للحرية. أما الحرية فهي الأصل.
لا يمنع ذلك أن ثمة إشكالات كبيرة تواجه هذا القطاع يمكن أن أوجز بعض حلولها فيما يلي:
*ضمان حرية الصحافة والحق في الوصول إلى المعلومة: وذلك لن يكون إلا بقانون صحافة متقدم ينتصر لقيم الحرية على حساب الرقابة.
* هيكلة القطاع في اتجاه التحول إلى المقاولة الصحافية العصرية بما يضمن الحقوق الاجتماعية والمادية للصحافيين.
*التنظيم الذاتي للمهنة من خلال هيئات مهنية مستقلة يعهد لها بتنظيم القطاع وتقنين الولوج إليه وحتى إيقاع العقوبات على المؤسسات والأفراد في حال الخروقات المهنية.
*التكوين المستمر داخل المؤسسات الإعلامية بما يضمن جودة المنتوج الإعلامي من جهة ويحمي أخلاقيات المهنة من جهة اخرى.
لكن أعتقد أن المأساة الأكبر للإعلام في المغرب، هي الإعلام السمعي البصري. إذ يخيل إلي أحيانا أن هناك إصرارا على عدم الاستجابة لنداء العصر في هذا المجال.هناك حالة من الإسفاف والسقوط في الرداءة غير المبررة، لأني أعرف وأوقن بأن الكفاءات متوفرة، وبأن الإمكانات المالية وإن لم تكن كافية فهي غير منعدمة.
لكن رغم كل شيء دعني أقول إن سفينة الإعلام في المغرب تتحرك ووصولها إلى شاطئ الأمان يتطلب تجديف الجميع.
هل يمكن أن تفكر يوماً في العودة لأجل العمل بالمغرب؟
طبعا .. العودة إلى الوطن حلمٌ أومن أنه سيتحقق وإن تأجل. بل أكثر من ذلك أؤمن بحق العودة وليس بالعودة فقط. لأننا خرجنا من بلدنا في سياقات يعرفها الجميع ، فلم نخرج راغبين بل مكرهين، بعدما سدت في أوجهنا أبواب العمل. كان الأمر أشبه ما يكون بنفي قسري .
لكن دعني أقولها وضحا: أنا لا اعتبر نفسي ضحية، أنا اعتبر أني أدفع راضيا ثمن مواقفي من أجل وطني وضميري. وعليه فلست مستاء ولا حزينا ولا حاقدا على أحد. والوطن يسكننا وإن لم نسكنه. وبلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنوا علي كرام كما قال الشاعر.
وأصدقك القول: العودة مرتبطة بتحقق شروط العمل المهني الذي يحترم كرامة الصحفي المهنية ويحترم حق الجمهور في تلقي إعلام مهني. عدا ذلك فإن التواصل مستمر بالبلد والزيارات لا تنقطع والحب موصول.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.