لم يستسغْ أحد سلفيي المغرب في مقال أطل بهِ مؤخراً ما حصل في ليبيا قبل أشهر، حينَ فازَ تحالف القوى الديمقراطية في انتخابات المجلس الوطني (البرلمان)، وانبرى الشيخُ بعبقرية عزَّ نظيرها لتفسير كبوة الإسلاميين في ليبيا ما بعد القذافي، مرجعاً إياها إلى تمكن الخوف من نفوس الليبيين بسبب الدعاية المغرضة التي استهدفت الإسلاميين إبان حكم القذافي، وكأن فوزَ الإسلاميين في بلدان ما بعد "الحراك العربي" مسألة محسومة أوتوماتيكيا، وإن لم تحصل وجبَ البحث بتمحل عن سبب تفضيل الناس التصويت لقوى سياسية أخرى، ناسين أو متناسين أن اللعبة الديمقراطية في جوهرها تنهضُ على تعددية الخيارات والمشاريع المجتمعية للقوى السياسية. مشكلة السلفيين مع السياسة كما هو بادٍ بجلاء، تكمنُ في رؤيتهم الضيقة للديمقراطية، وحصرهم لها في صناديق الاقتراع والأغلبية العددية، وحينَ يثار الحديثُ بشأن الحقوق الفردية والمواطنة يصرون على إقحام ما يسمونه "حق الجماعة"، قائلين إن على الأقلية أن تنصاع وتذعن لخيارات غدت تمليها خيارات الشعوب الثائرة، وفي هذا المضمار يحضرني نموذجٌ عادَ بقوة إلى عناوين الأخبار الدولية، وهو ميانمار التي تتعرضُ فيها أقلية الروهينغا المسلمة للاضطهاد على يدِ جماعة بوذية متطرفة منذ مدة طويلة، ومات المئات منها في أعقاب إحراق منازلها وتهجير ذويها في الأسبوعين الأخيرين، وإن لاستدعاء ميانمار دلالة جد قوية في ظل صمت الحكومة المحلية هناك عن الجرائم المرتكبة في حق المسلمين، كما أننا إذا شايعنا الإسلاميين في طروحاتهم أمكننا سريعاً أن نجدَ مسوغات لما ترتكبه الجماعات البوذية المتطرفة من انتهاكات لحقوق الإنسان، على اعتبار أن المسلمين يمثلون أقلية في تلك البلاد، ومن الضروري أن يمتثلوا لإرادة الأغلبية البوذية. حين تستشكل الأمور على أبي حفص ويقع في حيص بيص، يضحي خليقاً به أن يضيف إلى فرضياته التي وضعها لتفسير خسارة الإسلاميين في انتخابات المجلس الوطني، أموراً من قبيل التجربة، لأن ليبيَا التي خرجت من جحيم الاستبداد وفتحت عينيها على ممارسات مشينة لسلفيين أمعنوا في مضايقة الليبين بعد سقوط النظام الليبي، أرادوا بتصويتهم أن يقطعوا الطريق على الإسلاميين قبل يستقووا ويتغولوا شأن سابقيهم من المستبدين. كما أن الشعب الليبي المسلم بتدينه الشعبي وبصوفيته النقية من شوائب التطرف، بدا في غيرِ حاجة إلى محاضرات السلفيين، الذين أقدموا بعد رحيل الطاغية على تغطية تمثال الغزالة في طرابلس لشبه يجمعهها بالأوثان. بعدَما كانت كلمة "الديمقراطية" تتصدر الصحف العربية أيام الثورات، أصبحنا لا نقرأُ هذه الأيام سوى عن صولات وجولات لسلفيين يجتاحون مجتمعاتنا كالجراد، وكأن من قدر البلدان العربية الرزوح تحت نير استبدادين اثنين؛ أولهما بتسلط تباركه القوى العالمية باعتبار تلك الأنظمة الفاسدة حاجزاً يحول دون صعود الإسلاميين، والنوع الثاني يشرعُ الباب أمام مظلومي الأمس ليصفوا حساباتهم ويطلقوا العنان لحلم إقامة دولة الخلافة، مع ترك مشاكل السكن والتعليم والصحة كأمور ثانوية، تأتي بعد الحسم في نوايا الناس وممارساتهم الفردية، أمَّا الديمقراطية فتبقى بعيدة المنال، في انتظار عصور تنويرُ تزيحُ غيمة الجهل المخيمة على سماء المنطقة.