هناك اضطراب واضح في تقييم حزب الأصالة والمعاصرة لنتائج الانتخابات الجزئية في كل من طنجة ومراكش، والتي مني فيها بهزيمة كبيرة، وخرج منها خالي الوفاض. في البدء، كان هناك اعتراف بالهزيمة، بل واستعداد للمحاسبة، فالسيد إلياس العمري القيادي في حزب البام، في تصريحه لجريدة المساء (عدد السبت والأحد)، قدم تفسيره لهذه النتائج مركزا على ثلاث رسائل: - الرسالة الأولى: الإعلان عن الهزيمة والاعتراف بها، وإبداء الاستعداد للمحاسبة بصفته رئيسا للجنة الوطنية للانتخابات داخل حزبه. - الرسالة الثانية: تبرير الهزيمة بكون حزبه لم يفقد قاعدته الانتخابية، وأن حزب العدالة والتنمية على العكس من ذلك، أضاع جزءا كبيرا من هذه القاعدة بالقياس إلى عدد الأصوات التي حصل عليها في انتخابات 25 نونبر. - الرسالة الثالثة: انتقاد حضور وزراء حزب العدالة والتنمية في الحملة الانتخابية في كل من طنجة ومراكش، وبشكل خاص رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، في إشارة ضمنية منه إلى كون حزب العدالة والتنمية، إنما فاز بتوظيف الصفة الحكومية وليس الصفة الحزبية. ثم ما لبث أن غير موقفه ، في لقائه بالمجلس الوطني بالصخيرات، فلم يعد الحديث عن المسؤولية والمحاسبة، وإنما حاول حرف اتجاه التقييم من خلال إقحام معاملات خارجة عن الذات الحزبية، وقد تمثل ذلك في ثلاث رسائل: - الأولى: اتهام وزارة الأوقاف ومؤسساتها باللعب لصالح الحملة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية، وما يعنيه ذلك من نقل المشكلة من إطارها السياسي الحزبي، إلى إطاره المجتمعي (المشروع المجتمعي). - الرسالة الثانية: اتهام حزب العدالة والتنمية بتوظيف الدين والمؤسسة الملكية في التنافس الانتخابي. - الرسالة الثالثة: اتهام جهات خفية داخل مؤسسات الدولة تعمل لفائدة العدالة والتنمية هذا هو الخطاب الجديد الذي حاول قيادي "البام" أن يبرر به هزيمة حزبه، ويغطي في نفس الوقت عن الفشل الذي مني به، في الوقت الذي رفع فيه التحدي أكثر من مرة في الحملة الانتخابية، وتم التوظيف الكثيف (خاصة على الواجهة الإعلامية) على مقولات الفشل الحكومي، والتباطؤ الحكومي، واللانجسام بين التوليفة الحكومية، ومسؤولية الحكومة عن الأزمة الاقتصادية، والملف الاجتماعي، وحراك الشارع، وغيرها من الموضوعات التي كان من الممكن أن تكون مفيدة في الاستقطاب الانتخابي. طبعا هذا التحول، ليس عاديا، فقد كانت التبريرات التي وردت في التصريحات الأولى كافية لإقناع قواعد الحزب ومناضليه بالهزيمة- هذا بالفعل إن كان الخطاب موجها لهذه القواعد- فحكاية استقرار القاعدة الانتخابية للحزب، إن صحت، تعتبر نقطة قوة يمكن أن يتحجج بها رئيس اللجنة الوطنية للانتخابات للنجاة من المحاسبة، إن كانت هناك محاسبة، كما أنه سبق قبيل موعد الاقتراع بيومين، أن تم تصريف موقفه بخصوص استثمار رئيس الحكومة ووزراء حزب العدالة والتنمية لصفاتهم الحكومية عبر افتتاحية جريدة وطنية معروفة الصلة به، مما يعني أنه كان يملك تقديرات دقيقة – لا ندري من أين حصل عليها – تفيد بأن "البام" لن يكسب أي مقعد في الانتخابات الجزئية على الأقل في طنجة، وأنه لذلك الغر ض، تم اللجوء إلى الإعلام لتسريب هذه التبريرات السابقة عن إعلان الهزيمة. كيف نفهم هذا التحول؟ ولماذا هذه الانعطافة الكبيرة من اتهام العدالة والتنمية إلى اتهام وزارة ألأوقاف والشؤون الإسلامية بل واتهام جهات خفية داخل الدولة؟ للجواب عن هذه الأسئلة، لا بد من إخضاع بعض المعطيات التي استند إليها رئيس اللجنة الوطنية للانتخابات لحزب البام ورئيس المجلس الوطني للمناقشة العلمية: 1- مقولة استقرار القاعدة الانتخابية للبام: من حيث الظاهر، تبدو هذه المقولة صحيحة، فالأرقام تؤشر على ذلك، فمقارنة الأرقام التي حصل عليها هذا الحزب في انتخابات 25 نونبر 2011 وانتخابات 4 أكتوبر في كل من طنجة ومراكش، تشير إلى أن حزب "البام" لم يفقد أصواته. غير أن الأمر لا يتعلق بأصوات حزب واحد هو البام، وإنما يتعلق بأصوات أحزاب أخرى تم الضغط عليها، أو اختارت طواعية أن تسحب مرشحيها لفائدة مرشح البام، وأن تقدم له كل الدعم الانتخابي لمنع العدالة والتنمية من تحقيق مكاسب انتخابية. ففي دائرة طنجة مثلا، لم يقدم التجمع الوطني للأحرار لائحته، ولم تقدم أحزاب أخرى يعرف الجميع ولاءاتها للبام، حتى صار التنافس بين سبع لوائح في اقتراع 5 أكتوبر بدل 17 لائحة في اقتراع 25 نونبر !، وهو ما يعني أن الأصوات التي حصل عليها البام، تشارك فيها أصوات الأحزاب التي تواطأت معه على عدم المشاركة وعلى دعم "المرشح المشترك" !. 2- مقولة فقدان حزب العدالة والتنمية لجزء كبير من قاعدته الانتخابية: وهو كذلك يبدو في الظاهر صحيحا، فبمقارنة ألأرقام، يتضح أن الفارق بين أصوات العدالة والتنمية في طنجة بين الاقتراعين هو أكثر من 17 ألف صوت. لكن، هذا التحليل، وإن كان من حيث الظاهر مقبولا، إلا أنه يحاول التغليط من خلال إخفاء الفرق بين الانتخابات التشريعية العامة والانتخابات التشريعية الجزئية، فالسؤال العلمي الذي ينبغي أن يطرح بهذا الصدد هو: هل تراجع الأصوات بين الانتخابات العامة والجزئية مرتبط بحزب معين، أم أنه ظاهرة مطردة عند جميع ألأحزاب في كل المحطات الانتخابية؟ لقد أثبتت الوقائع التاريخية المرتبطة بالاستحقاقات الانتخابية، أن نسبة المشاركة في الانتخابات الجزئية تنخفض بمعدل النصف تقريبا بالمقارنة مع الانتخابات العامة، مما يجعل قاعدة المصوتين ضعيفة بالمقارنة مع قاعدة المصوتين في الانتخابات التشريعية العامة، ولا حاجة لتفسير ذلك، فالانتخابات التشريعية العامة تجعل من الانتخابات حالة وطنية ذات أولوية يغذيها الحراك الانتخابي، والتداول الإعلامي الكثيف سواء على مستوى الصحف أو الإعلام العمومي، وعلاقات الجهات والأقاليم ببعضها البعض، كما أن الرهانات السياسية الكبرى المرتبطة بالفعل الانتخابي تختلف في الانتخابات العامة التي تصنع الخريطة السياسية وتحدد نوع الحكومية التي ستدير البلاد، عنها في الانتخابات الجزئية التي لا تؤثر في هذه الخريطة ولا تغير شيئا في مسار العمل الحكومي. لهذه الاعتبارات، يكون المعيار العلمي لقياس تطور الأصوات بالنسبة إلى حزب معين، ليس هو قياس عدد أصواته بين الاقتراعين، وإنما بقياس نسبة أصواته بالمقارنة مع قاعدة المصوتين، وهو ما يعكس تقدما كبيرا لحزب العدالة والتنمية، إذ ارتفعت نسبة الأصوات من 43 في المائة إلى حوالي 56 في المائة. 3- من مقولة الاستعداد للمحاسبة إلى اتهام وزارة الأوقاف: لا أفهم من هذا التحول سوى شيء واحد، هو أن كل الخطابات التقييمية التي أنتجها رئيس اللجنة الوطنية للانتخابات ليست موجهة إلى حزبه ولا إلى مجلسه الوطني ولا حتى للرأي العام. ربما يكون تقييم السيد بنشماس، والذي تبنى جزءا من تبرير رئيس اللجنة الوطنية للانتخابات بخصوص استقرار القاعدة الانتخابية للبام، ربما يكون هذا الخطاب موجها للحزب، أو حتى للرأي العام، لكن الانتقال من إعلان الهزيمة، وإبداء الاستعداد للمحاسبة، إلى اتهام وزارة الأوقاف وجهات خفية في الدولة، يؤشر على أن المخاطب ليس هو الحزب ولا مناضليه ولا حتى الرأي العام، فالرسالة واضحة، "لا يمكن هزم العدالة والتنمية انتخابيا وحزبيا وسياسيا"، إنما هزيمته ينبغي أن تبدأ من القاعدة المجتمعية، من هزم مشروعه المجتمعي. الرسالة التي يتم توجيهها واضحة، لقد فشلت المهمة، وهناك جاهزية للمحاسبة، حتى وإن تطلب الأمر الانسحاب كلية من السياسة، والتواري من حلباتها، لكن قبل ذلك، أو قبل اتخاذ هذا القرار، لا بد من التذكير بشيء مهم، ولا بد من ترك رسالة قبل الوداع، إن كان القرار ذلك،:"لا يمكن لكم هزم العدالة والتنمية بدون هزم مشروعه المجتمعي، ولا يمكن هزم مشروعه المجتمعي، من غير أن يقع تحول كامل في السياسات الدينية، بما يجعلها تخدم أجندة علمانية كاملة تفصل الشعب عن قيمه الدينية وعن ثوابته. هذه هي خارطة الطريق، وما عداها ضرب من العبث". الرسالة واضحة لا غموض فيها، هي لا تقصد بالتأكيد وزير الأوقاف وإن كان الاتهام استهدفه بشكل شخصي، وإنما تقصد البرهنة على أن خيارات إضعاف العدالة والتنمية باعتماد التكتيكيات السياسية والانتخابية والإعلامية ثبت فشلها، وأن الخيار الوحيد المتبقي، والذي لم يجرب، هو الاستئصال، وأن البداية ينبغي أن تبدأ من ضرب التدين بزعم أن ذلك يشكل القاعدة الخلفية للعدالة والتنمية في كل معاركه السياسية والانتخابية. 4- اتهام جهات خفية داخل مؤسسات الدولة: قد يستشكل البعض هذه الإشارة، وقد يعتبرها مجرد افتعال لإلقاء الشماعة على جهات مجهولة، وإعفاء الذات الحزبية من المساءلة، لكن لا يبدو الأمر بهذه البساطة، فالإشارات لها مدلولها العميق، حتى وهي بهذا الغموض. طبعا، معروف أن جزءا كبيرا من هذا الخطاب السياسي لا يتنزه عن اختلاق معطيات غير صحيحة، لكن، في السياق السياسي لا يهم كثيرا معرفة الصحة من الكذب، إنما المهم هو معرفة قصد الخطاب واتجاهه وإلى ماذا يرمي؟ وفي مثل هذه الحالة بالذات، فإن التحقق من الاتهامات التي أوردها السيد إلياس العمري هو ضرب من العبث، بل وقوع الفخ، فالرجل لا يتحدث أصلا عن العلاقة المفترضة بين العدالة والتنمية والجهات الخفية في الدولة، حتى ولو بدا ظاهر حديثه كذلك، وإنما يوجه هذا الخطاب للدعوة إلى إعادة النظر في تعددية الجهات الخفية التي يتحدث عنها، تلك التعددية التي تسمح بتعدد التقارير وتنوعها، وتتيح الفرصة لتقييم خلاصاتها وتمحيصها بعرض بعضها على بعض. أحيانا يكون عدم التعاون سببا للاتهام وخوص الحروب؟ وأحيانا يكون مبررا لاستهداف التعددية، إذ في جو الأحادية، يكون التعاون كاملا لاسيما إذا حصل التماهي. هي ذات الرؤية الاستئصالية، لكن هذه المرة، وبعد السياسة الدينية، تتوجه إلى نقد السياسة الأمنية، ومحاولة التأثير في القرار السياسي لجهة إنهاء الطابع التعددي في اشتغالها خاصة في تعاملها مع الحركات الإسلامية.