إن السؤال السوفسطائي : هل نعيش لنأكل؟أم نأكل لنعيش؟حينما يخرج عن هذا المنحى الكوميدي، و يتبنى قليلا من الجدية، لن يظل حتما سوفسطائيا. بل سيغدو،في حقيقة الأمر، إشكاليا من الأسئلة الأنطولوجية الكبرى التي تؤرق جمجمة الإنسان، بقدر ماهو كائن حي. طبعا، نحن نأكل لنحافظ على البقاء، لكنها مسألة مرتهنة بالشق الأول، بحيث لانعيش لنأكل لكن اللعبة أسمى، مادام الحق يقضي أن نحيا بحقوق طبيعية كاملة، يؤطرها جميعا حقك في الحياة. قانون، كفلته جميع الشرائع السماوية منها والأرضية و المذاهب و الأيديولوجيات. بمعنى ثان، عملية الأكل بمفهومها السياسي تضمر فنا للعيش وحقلا مجتمعيا مشتركا وآخرين وعلاقات وتدابير وتأمل وادخاروكدّ إلخ. الأكل ليس مجرد آلية فيزيقية، تتأتى نتيجة افرازات ودواعي شرطية ميكانيكية،تتفاعل داخل الجسد الذي يبحث لنفسه الإنبعاث والإستمرار.ربما،كان ذاك،ممكنا في المجتمعات الأولى للتاريخ، حينما الطبيعة لازالت متماهية بذاتها منسجمة بالمطلق مع ممكناتها، والإنسان يتمتع بعلاقة مباشرة وفورية،بإدراك بسيط وأحادي. لكن لما قامت الدول وتأسست المجتمعات، وبدأ الأفراد يجدون أنفسهم أكثر فأكثر،في خضم علاقات جد معقدة لا يفقهون مقدماتها ولا يمكنهم حدس نتائجها،هنا بدا الأكل سلوكا سياسيا،تحكمه قوانين الندرة والوفرة،ثم يتضخم أو يتضاءل قياسا لآليات المنظومة السياسية. لاشك بأن، سفسطة السؤال الإستنكاري : هل نعيش لنأكل؟ يجر وراءه سيلا عرمرما من النقاش الأيديولوجي، بين أنصارالنضال السياسي وكذا دعاة الإصلاح الإقتصادي. وتفرع الفريقان إلى اتجاهات شتى،أغنت التاريخ الفكري، بسجل ثري من الرؤى والأطروحات، دون التغافل أيضا عن الإتهامات والشتائم. فإذا كان الأولون عقائديون و دوغماطيقيون، بل فوضويون حتى، في نظر الإتجاه الثاني. فلا شك أن أشنع صفة قد توجه إلى الواقفين عند حدود الرهان الإقتصادي، تتمثل في نعتهم ب"الخبزيين"، وما ينطوي عليه الوصف من دلالات الإستهجان والإحتقار، بمعنى أناس انحدروا فقط إلى المستوى الحيواني،الغرائزي، ويترقبون فقط الأيام ليأكلون !. ولعل النظرة الصائبة في هذا المقام،تروم نحوالرؤية التوفيقية الثالثية،التي تؤكد استحالة بناء مجتمع وفق الأبعاد الحقوقية لهذه الكلمة دون سياسة و اقتصاد معا،رأس وبطن، تفكير واستهلاك. معادلة، استوعبتها الشعوب العربية مؤخرا، فهبت إلى الشوارع تناضل بشراسة من أجل تفعيلها وجعلهاحقيقة ملموسة. لم يعد مقبولا، أن تخرج صباحا وتملء سلة غدائك بما تحتاجه، وأنت وسط معتقل كبير تلاحق ضميرك أصوات وآهات المعذبين من كل حدب وصوب. إنها الفكرة التي تفاخرت بها الأنظمة العربية : إذا كنتم تجدون ما تشحنون به بطونكم، فماذا تريدون بعد أيها الأوغاد؟مع العلم، وياللمفارقة !! أن الأساليب التي اتبعت طيلة عقود، لم تكن في حقيقة الأمر، إلا تجويعا ممنهجا بهدف تركيع الشعوب، استغلالا و تعديما كليا لأبسط مقومات العدالة الإجتماعية، بالإختفاء وراء برامج واهية انتهت جميعها برهن الدول، في يد المنظمات الدولية التي تبقى بعد كل شيئ مجرد واجهة لجشع التروستات والهولدينغات الأمريكية والأوروبية. إن النضال من أجل الخبز، يمثل في واقع الأمر صراعا سياسيا، يتوخى إعادة تشكيل بنية المجتمع، وقلب المعادلات وترسيخ شروط الدولة العادلة عبر الخبز الكريم، وليس ذاك الممهور بأصناف الذل والعبودية، وتمريغ أنوف الناس في الوحل من أجل كسرة غبز يابسة لاغير، وهو مايمكن تسميته بميتافيزيقا رغيف الخبز في الوطن العربي.حيث، يقضي الفرد سنوات عمره، جريا وراء سيزيفية الخبز.يصبح الخبز زمانا وجوديا،بمعنى فاعلا مجردا بل وهميا،بينما حقيقة الخبز تتجسد في المستبد، وبنيات الإستغلال الدينامية باستمرار. أقصى، ما يمكن أن يطمح إليه الانسان العربي في هذا العالم،ضمانه لخبزة، كناية عن مصدر للعيش يتهدده السلب بلا توقف.هكذا، تتداول العامية المغربية،استكانة ما يسمى ب"عضّة الخبز" و"طْريف الخبز" الذي قد يسمو إلى درجة "الخبزة" أي النعمة الكاملة، لكن تتدخل دائما في صنعها أطراف غيبية لاوجود لها على أرض الواقع : رضا الله، رضا الوالدين، ثم خاصة رضا الحاكم حيث ميز فئات من الشعب لسبب ما، وأصبحت ترفل في نعيم العطايا والمكرمات !؟ بالتالي، تضمحل قيم الذكاء الفردي والعمل والمميزات الذاتية وتساوي الفرص والعدالة الإجتماعية والوطن للجميع والمستقبل لمن يعمل بجد ومثابرة... ،جميعها لحساب بنية رعوية في غاية الترهل والتكلس... . غير أن هذه الشعوب، بعد معركتها الإقليمية الحالية التي تتوخى من خلالها بناء مجتمع إنساني، يكون معه تناول الخبز وممارسة السياسة، مسلكان لمسلك واحد، سيتحتم عليها في الآن ذاته وبحدة الإنتقال إلى معركة كونية ثانية، ربما لم نتبين بعد حتى مجرد تخيلا، خيوطها الأولى. والحال كذلك، لأننا لا زلنا في طور البحث عن تلك المحددات ربما البدائية، قياسا لما تجاوزته أوروبا منذ ما ينيف عن خمسة قرون. نحن في بداية، مرحلة التحرير السياسي أو توطيد الإ ستقلالات الحقيقية. وكأني، أسمع ثانية تردد صدى صوت تشرشل القائد البريطاني العظيم، مخاطبا البريطانيين سنة 1940 : ((ليس لدي ماأقدمه لكم، سوى الدم والتعب والعرق والدموع)). لأن التحديات جسيمة، ومعطيات المعركة متغيرة عناصرها. طيلة عقود مضت، كنا نستغرب ونحن نتابع على شاشات التلفزيون، خروج مظاهرات أوروبية، تحث حكوماتها على وقف التجارب النووية، وتحويل أموال صناعة الأسلحة إلى الفلاحة والصحة والتعليم ونجدة جحافل الجياع الموزعة في مختلف بقاع العالم. وكنا نرى شعارا لا نلتفت إليه قط، يدعو إلى الإهتمام بكوكب الأرض، لأنه أضحى عرضة لتخريب بشع ، بسبب السياسات غير المسؤولة لقادة الدول الصناعية الثمانية. وإذا كنا نعاني في العالم العربي تجويعا مبنينا ومهيكلا ، لا لشيئ ، إلا لتأبيد علاقات عمودية بين بشر يحكمون وبشر محكومين، فإن المتظاهرين الأوروبيين وهم الذين يتمتعون بأعلى السعرات الحرارية، انتقلوا كي يدقوا ناقوس الخطر بخصوص المنحى الإيكولوجي الخطير،الذي قادنا إليه التطور التكنولوجي للغرب الحديث. مصير، ستكتوي بناره كل شعوب الأرض،سواء كانت في الشمال أو الجنوب. ولعل من يقرأ، كتاب عالم البيئة "جيمس لفلوك"(1) سينتابه حقا الفزع والرعب الشديدين، ويشعر بأن الوضع في غاية الخطورة،فالمجاعة واقعة لا محالة أسرع مما نتوقع :((ومع ارتفاع حرارة الأرض وجفافها وفقدان الأرض للبحار سينحشر 7مليارات شخص في منطقة من الأرض الخصبة، تتناقص باستمرار))(2). إنه موضوع الاحتباس الحراري، الذي سيضاعف المشكلة الغذائية، في منطقة كالمنطقة العربية المنتمية أصلا إلى جغرافية المناطق الجافة وشبه الجافة. لم يتحقق أي بند من بنود التنمية العربية المستدامة، وضمنها الحقل الزراعي.وبقي كل نظام عربي، يبحث لنفسه عن بر للأمان عبر مداخل ومخارج لا تنتمي إلى أي من أدبيات التفكير الإستراتجي. بهذا الخصوص، سئم الباحثون من الترديد المجاني لبيانات تشير إلى أهمية التكامل الإقتصادي بين الأسواق العربية، وجبرية التجمعات الإقليمية قصد مواجهة التحديات الجسيمة.لكنه، طموح بقي يراوح مكانه، فضاعت الملايير والسنين بين طيات خطب سوق عكاظ. لكن، حينما تحدث أي أزمة دولية، كما وقع سنة 2008، ثم ترتفع أسعارالسلع الزراعية والغذائية، خاصة وأن البلدان العربية تستوردعلى الأقل ما يقارب 50 % مما تستهلكه من الحبوب، رقم من المتوقع أن يلامس 64% ،وما ينتج عن وضع كهذا من زيادة معدلات الفقر وسوء التغذية واضطرابات اجتماعية. فإن، المستجد المؤجل قد يحيي مؤقتا نقاشات الأمن الغذائي، الذي يشعل جمرته اليوم ارتفاع نسبة السكان وتغيرات المناخ السريعة ونقص الأراضي الصالحة للزراعة وتضاؤل الفرشة المائية والإعتماد الكبير على الواردات والتصحر ثم غياب زراعة مبنينة تعقلن القطاع الفلاحي. إذا كان الفلاح الأمريكي، يخطط لمدى قد يصل إلى خمسين سنة،نجد في المقابل تغني الحكومات العربية بقدرية كافكاوية، وهي تراهن كل سنة أن تتلبد السماء بالغيوم، مستندة إلى لغة الإرجاء والتسويف، في غياب مشروع مجتمعي جذري ينهض حقا بالإنسان والأرض.أما الاستثمار، في هذا المجال فيركزأساسا على المنتوجات التسويقية، كبعض الفواكه والخضر والزيتون، وإهمال شبه تام للإنتاج الحيواني والحبوبي أساسا الأمن الغذائي. هنا أيضا، ولأسباب انتفاء الدولة الوطنية وتداخل الخاص بالعام، تتجه العناية إلى مزيد من الإهتمام بالفلاح الكبير -دون الفقير- المشرف على هذه الفلاحة الموجهة للتصدير، باعتباره واجهة للعائلات الحاكمة، التي تعتبر في طليعة المستفيدين من دخل وإيرادات هذه الفلاحة، التي تتطلب إمكانيات مالية ومادية ضخمة من سدود مائية وآلات متطورة ثم استحواذ بكل الطرق على أخصب الأراضي وأجودها. في المقابل، يتم الإلتجاء إلى استيراد جل المنتوجات الغذائية من حبوب الشعير والقمح والذرة والأرز وفول الصوديا... ، مما يبقي هذه البلدان سجينة لمصالح الدول المزودة اللوجيستيكية، و تقلبات الأسواق العالمية والاحتكار، بل احتمالية حدوث كوارث بيئية لدى البلدان المصدرة ، فالقمح الأوكراني أو الكندي ولا سيما الأمريكي ، ليس دائما على طبق من ذهب. أيضا، وفيما يتعلق بالإنتاج الحيواني، فقد تابعنا خلال العقد الأخير،الوتيرة السريعة لانتشار أمراض جنون البقر وأنفلونزا الخنازير والدجاج، بالموازاة مع التطورالهائل للأبحاث المختبرية والتي بقدر مااستطاعت التحكم في خريطة الجينات الوراثية، بغية التصرف في النوع والكيف وتضخيم معدلات الإنتاج ودرجات تسمين الكتلة اللحمية، سقطت أيضا في ارتدادات علمية رهيبة جدا. يعتبر، النمو السكاني في الوطن العربي من النسب العالية عالميا، بحيث تؤكد آخر الإحصائيات أن العدد يفوق 318 مليون نسمة. إذن، الأفواه في ازدياد مطرد، يقابله في الجهة الثانية شح الموارد واتساع قاعدة الفقر، وكأن التحليل القاتم للمفكر الإقتصادي "توماس مالتوس"(1766-1834) يطفو إلى السطح من جديد، مؤكدا على حتمية تناقص المواد الغذائية، مقارنة مع زيادة السكان. وللتذكير، فقد أثبت مالتوس أن سبب الفقر والمجاعات في العالم، سببه البشر أنفسهم الذين ينمو عددهم بسرعة كبيرة، في ظل موارد إقتصادية محدودة. ينساب الخط السكاني في العالم، بموجب متوالية هندسية، تقوم على مضاعفة الرقم الأخير من السلسلة الحسابية(4…،8،16،2،1) ، فيما يتزايد معدل إنتاج الغذاء حسب متوالية عددية، تضاعف فقط الرقم الأول في المتوالية(1،2،3،4،5،6 ...).مما سيبقي الوطن العربي، في دوامة العجز الغذائي، تزداد حدته كل سنة، لأن حجم المواد الغذائية لايكفي لتلبية حاجياته الإستهلاكية. بالتالي، اللجوء إلى الإستيراد بهدف تغطية العجز.النتيجة، استنزاف دائم لرصيد العملة الصعبة والبقاء في شرك المديونية والتبعية. هكذا، فالإنتاج المحلي عاجز عن تلبية المتطلبات المتفاقمة، مما يوسع الفجوة الغذائية في العديد من الدول العربية ، وصلت أحيانا حد المجاعة، كما نتذكر وياللمفارقة العجيبة !! في بلد بحجم السودان، مع مطلع التسعينات بل وخلال أيامنا هاته. السودان بمساحاته الضخمة والمياه التي يحويها، جوفا وسطحا ، وتربته الخصبة التي تصل إلى 30مليون فدان صالحة للزراعة لايستغل منها سوى 16% وغنى موارده الطبيعية والبشرية، اعتبر دائما مزرعة تحقق للعرب أمنهم الغذائي، أو كما ظلت الأدبيات القومية ترفع شعار "السودان سلة الغذاء العربي"، ومزرعة للعرب.لكن ماذا تبقى حاليا من السودان؟الذي يعيش ويلات حرب أهلية ترعاها إسرائيل وأمريكا، مزقته إربا بتكلفة مادية على حساب تنميته، تقدر بحوالي مليون دولار يوميا. إن الجوع وسوء التغذية، يكتسحان اليوم معظم البلدان العربية، مما يضع مفهوم التنمية البشرية على المحك؟ لأن البيانات والتقارير الرسمية،لاتعكس لامن قريب أو بعيد الواقع البئيس لقطاعات واسعة جدا من الشعوب العربية. فالميدان الفلاحي كباقي لبنات الدولة الحديثة، يرتبط لا محالة بالبناء الإجتماعي المتين الذي تتكامل روافده مثل البنيان المرصوص، لا يمكن أن تفصل داخله التعليم عن الصحة و لا الرياضة عن الثقافة،أو البحث العلمي عن المنظومة الفنية،إلخ. هكذا اشتغلت وتشتغل المنظومات السياسة لدى الأمم المتحضرة. أما نحن، فلا زلنا نقبع بين عوالم هلامية للأهواء والصدفة والمناسباتية، وتذويبها جميعا بين طيات تضخم لغوي هائل يبني قصورا من رماد، ما إن تتداعى أول نسمة ريح حتى ينكشف بجلاء هذا الفراغ المقفر. تشير بيانات "المنظمة العربية للتنمية الزراعية"، أن إجمالي قيمة الواردات العربية، فيما يخص سلع المواد الغذائية الرئيسية ارتفعت من 14,13 ملياردولار سنة2000، إلى 94,24 مليار دولار عام 2005 ثم 32,70مليار دولارعام 2007 شكلت نسبة واردات الحبوب 41% من القيمة الكلية للسلع الغذائية المستوردة.كما يشتري الوطن العربي، ثلث احتياجاته بخصوص مادة كالسكر وأكثر من نصف احتياطاته من الزيتون. لذلك تعرف الفجوة الغذائية، خطا تصاعديا من 12 مليار دولار عام 1997 إلى 19 مليار دولارعام 2007 ثم 25 مليار دولار سنة 2009. إجمالا، ينتج الوطن العربي أقل من 70%من احتياجاته الغذائية . أما مستويات انعدام الأمن الغذائي، فالمؤشر يقف عند حدود5% في مصر-تنبغي الإشارة أن الأخيرة من أكثر البلدان في العالم استيرادا للقمح بنحو 6 ملايين طن سنويا، وكانت حتى عقود قليلة تصدر القمح إلى أوروبا، وهي من أقدم البلدان الزراعية في العالم- ثم سوريا ولبنان وليبيا ودول الخليج. أما الأردن والجزائر والمغرب، فيبلغ انعدام الأمن الغذائي لديهم 9% ،نسبة سترتفع إلى %34 في العراق والسودان واليمن وموريتانيا وجزر القمر. اذن، تختزل مشكلة الأمن الغذائي في محورين أساسيين : من جهة، انخفاض الإنتاج الزراعي . ثم، من ناحية أخرى ارتفاع سعر المواد الغذائية. ولأن واردات الحبوب تشكل نصيب الأسد، بحيث تقارب 50 مليون طن سنويا، فإن ارتفاع سعرها في السوق الدولية، يؤدي آليا إلى غلاء أسعار الخبز واللحوم والألبان مما يضاعف عجز الميزان التجاري، واستفحال نسبة التضخم بكل ماينطوي عليه من انعكاسات اجتماعية سيئةجدا. فمثلا، حينما ارتفعت أسعار المواد الغذائية عام 2010، ازدادت نسبة من يعيشون تحت خط الفقر في شتى أنحاء العالم إلى 68 مليون نسمة ، وهي الفئة التي تنفق ما يقارب65% من دخلها على الغذاء. بالطبع، عندما توجه جل النفقات إلى الغذاء فماذا سيتبقى للأشياء الأخرى؟. قد يقول قائل، إن خطر المجاعة ربما يتهدد بعض دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ، التي لا يسمح لها دخلها القومي كي تستمر في شراء ثلث كميات القمح المتدوالة عالميا، التي من المتوقع ارتفاعها إلى 40 % .بينما الإمارات الخليجية فلا خوف عليها ، نظرا لأن عائداتها النفطية الوافرة تضمن لها بيسر الإعتماد على الغذاء الخارجي. أعتقد، ليس هناك من حاجة للتذكير، أن قوة الأمم مصدره الأساس قدرتها على أن توفر غذاء أبنائها بنفسها، لذا فالنموذج الاستهلاكي الهش، حيث الاعتماد بالمطلق على الخبرات الأجنبية من تنظيف البيوت إلى الحماية الأمنية والعسكرية، هو نموذج سيفرغ كليا الإنسان العربي من زخمه الوجودي، لذلك لا تتوقف النخب الذكية في تلك البلدان و أصواتها المميزة، أن تلفت الانتباه حيال خطورة هذا التحلل، وضرورة استلهام وتبني مسارات القوى الاقتصادية الصاعدة كالبرازيل والهند وكوريا الجنوبية وتركيا والصين... . إذن، ينبغي على القيادات العربية الجديدة، القطع مع الهرطقات والغوغائيات السابقة ، وتسعى جاهدة لبلورة برنامج متكامل يتوخى تحقيق الاكتفاء الذاتي، وخلق سوق عربية مشتركة على غرار المجموعة الأوروبية، في أفق مواجهة العجز الغذائي الذي تعيشه الشعوب العربية ،لاسيما وأن غناها الطبيعي وممكناتها المالية ،يخلقان لها كل روافد القوة الإنتاجية الخلاقة. بهذا الخصوص،تبرز خطوات ملحة لامحيد عنها، مثل : 1- مضاعفة الاستثمارات في القطاع الفلاحي.2- عقلنة الزراعة ومكننتها، بتحديث وسائل الإنتاج وتثوير علاقات الإنتاج.3- زيادة المساحة المزروعة والإستغلال الجيد لها، لمواجهة التوسع العمراني.4-التوظيف الجيد والفعال للثروة المائية،فالحروب المقبلة ستكون حروب مياه كما يعتقد أغلب المستقبليين،لذا أضحى الماء أهم رصيد بعد الطاقة البشرية المؤهلة .5-التركيز على تنمية البوادي، وجعلها مناطق خضراء خاصة وأن 76% من فقراء العرب يعيشون في الأرياف... . خلاصة القول ، تتجلى أمام العرب جبهتان صميميتان للصراع، فإضافة إلى النضال الديمقراطي، من أجل إعادة بناء المنظومة العربية وفق شفرات سيرورة التاريخ. تطرح أيضا بحدة ، مجابهة ثانية لازالت ربما تبدو حتى الآن بعيدة كل البعد عن اهتماماتنا، أقصد النضال البيئي لحماية ماتبقى صالحا في كوكب الأرض، أمام التدفق الهائل لغاز ثاني أكسيد الكربون الذي يقتل بلا هوادة المجال الحيوي على وجه البسيطة، مما يعني جفافا وتصحرا واجتثاثا لمنبع بقاء البشر. *هامش 1-جيمس لفلوك : وجه غايا المتلاشي.تحذير أخير. ترجمة سعد الدين خرفان. سلسلة عالم المعرفة.العدد318.مايو2012. 2-نفسه.ص.107.