يعرف العالم اليوم عولمة اقتصادية وسياسية متسارعة، فبعد أن عاشت الدول النامية في ظل النظام الثنائي بوجود نظامين سياسيين واقتصاديين متناقضين ومتنافسين الرأسمالي والاشتراكي ولم تستطع من خلاله تحقيق قدر لابأس به من التنمية الاقتصادية و من الاستقلال الاقتصادي. الآن هذه الدول مقبلة على الخضوع لنظام عالمي اقتصادي وسياسي جديد السيطرة فيه للولايات المتحدةالأمريكية وللدول المتقدمة من خلال مجموعة من المنظمات العالمية والتكتلات الاقتصادية والشركات المتعددة الجنسية...مما يؤدي بلاشك إلى تفاقم الفجوة والهوة بين الشمال المتقدم والجنوب المتخلف. والدول العربية بموقعها المتميز جغرافيا على الأقل، لا شك أنها ستتأثر بهذه المتغيرات مما يطرح عليها ضرورة التعامل معها بايجابية من أجل تأمين مصالحها واستقرار مستقبلها إن على مستوى قضايا الأمن السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الغذائي. والمقصود بالأمن الغذائي: قدرة المجتمع على توفير احتياجات التغذية الأساسية للمواطنين وضمان حد أدنى من تلك الاحتياجات بانتظام وتوزيعها عليهم بأسعار مناسبة وبكميات تكفي وتكفل قيامهم بوظائفهم البدنية والذهنية. إن قضية الغذاء في الوطن العربي لايمكن النظر إليها بمعزل عن العالم خاصة في ضوء المتغيرات الدولية الراهنة.أي الاتجاه السريع نحو الاعتماد المتبادل خاصة بالنسبة للسلع الغذائية وذلك بعد إنشاء المنظمة العالمية للتجارة وتلاشي نظم الحماية وإجراءاتها وازدياد المنافسة بين التكتلات الاقتصادية العالمية الكبرى. إن نقص الغذاء في أي مجتمع من المجتمعات هو مشكلة لها أسبابها المتعددة. وهي تكبر كلما كان العجز كبيرا وكبيرا جدا. وهذا العجز على أنواع: إما عجز في الإنتاج أو عجز في القدرة الشرائية أو عجز في الاثنين معا. وهكذا يمكن أن نجد: - بلدانا لا تنتج غذاءها أو جميعه، ولكنها تملك القدرة المالية على شرائه ، كما هو الشأن بالنسبة لدول الخليج العربي. - بلدانا أخرى تنتج غذاءها كليا أو جزئيا، ولكن شرائح من المجتمع لا تستطيع الحصول عليه بسبب ضعف القدرة الشرائية. - وصنف ثالث من البلدان وهي العاجزة عن إنتاج غذائها وعاجزة عن شرائه أيضا من الخارج. وكل دولة تسعى إلى تحقيق اكتفاء ذاتي غذائي. فإذا لم يكن ذلك ممكنا، فلن يبقى أمامها سوى اللجوء إلى الخارج شريطة، بطبيعة الحال، توفير الأموال اللازمة له. يعتبر الوطن العربي أكبر منطقة عجز غذائي في العالم، حيث تشير الإحصائيات إلى أن الأقطار العربية مجتمعة تعتمد على الخارج في توفير 45% من إجمالي احتياجاتها من الغذاء سنويا.و مشكلة الغذاء تعتبر من أبرز مظاهر الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وعلامة من علامات فشل الإستراتيجيات التنموية العربية. بدأت هذه المشكلة في الاستفحال غداة حصول الدول العربية على استقلالها السياسي حيث نهجت سياسات تنموية صناعية وزراعية مختلة أدت بالتدرج إلى عدم الاكتفاء الذاتي في مجال الغذاء في كثير من هذه الأقطار. ومما ساعد على تفجير المشكلة هو ازدياد المداخيل والريوع النفطية وما أدت إليه من زيادة في الطلب على السلع الغذائية نتيجة ازدياد عدد السكان بمعدلات كبيرة جدا. ماهي حقيقة المشكلة الغذائية في الوطن العربي، ماهي أسبابها؟ وعلى عاتق من تقع مسؤوليتها؟ وكيف يمكن معالجتها؟ لكن قبل هذا وذاك لابد من التعرف على الإمكانات الطبيعية الحقيقية الحالية في الوطن العربي: أولا: الإمكانات الطبيعية في الوطن العربي 1.الجغرافية العربية غير ملائمة: إن مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في الوطن العربي لاتزيد عن 15% من المساحة الإجمالية. هذا يعني أن أكثر من 80% من مساحة الوطن العربي، عبارة عن صحارى قاحلة ذلك أن معظم البلدان العربية تقع في مناطق حارة أو شبه حارة، أي أن أراضيها جافة أو شبه جافة، فالجغرافية العربية تتكون من مساحة الصحراء الكبيرة. أما مساحة الأراضي التي تزرع بانتظام في الوطن العربي، فلا تزيد عن 8% من مجموع الأراضي الصالحة للزراعة وهذا يعني أن 92% من الأراضي الصالحة للزراعة لاتزرع ولا تستغل بانتظام وتهمل في مواسم كثيرة بلا مبرر. ورغم بعض العمليات لاستصلاح الأراضي وزيادة المساحة القابلة للزراعة في الوطن العربي في العقود الأخيرة إلا أنها تبقى محدودة جدا. 2. الساكنة في الوطن العربي تمتاز بالنمو السريع: في مطلع التسعينيات بلغ عدد السكان في المنطقة العربية حوالي 200 مليون نسمة، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد في السنوات المقبلة. فمعدل الخصوبة السكانية في الوطن العربي يبلغ 3% على الأقل سنويا، وهو أعلى معدل في العالم. 3. الموارد المائية غير مستغلة بصورة جيدة ومنتظمة: يملك الوطن العربي اثنين من أهم الأحواض النهرية في العالم: - حوض النيل الذي يضم مصر والسودان؛ - وحوض دجلة والفرات الذي يضم سوريا والعراق. ويتفق العلماء على أن نقص الرقعة الزراعية المروية لايعود إلى ندرة المياه بقدرما يرجع إلى سوء استغلالها وعدم التحكم فيها. فهناك عدد كبير من الأنهار الصغيرة والمجاري المائية الجوفية والسطحية لكنها بحاجة إلى سدود وخزانات للتحكم فيها. 4. الإنتاج الزراعي قليل جدا: حتى أمد قريب، كان الوطن العربي ينتج كافة احتياجاته من الغذاء، ويصدر جزءا من الفائض إلى الخارج. لكن مقدمات المشكلة الغذائية بدأت بعد الحرب العالمية الثانية وخاصة بعد حصول معظم الدول العربية على استقلالها السياسي، حيث انصرفت الجهود إلى مشروعات التصنيع على حساب الاستثمار الزراعي، وطبقت سياسات إصلاح زراعي فاشلة أدت إلى إضعاف الإنتاجية، وتقسيم الملكيات الزراعية إلى وحدات صغيرة .وبدأت الدول العربية تعاني من عجز في ميزانها التجاري الزراعي. هذا عن الإمكانات الحالية، أما صورة الغد القريب، حتى لا نقول المستقبل، فقاتمة وخطيرة جدا؛ ففي مطلع القرن الحالي سيكون الوطن العربي مضطرا لتسديد مبالغ كبيرة جدا من أجل شراء المواد الغذائية من الخارج (تتراوح بين 120 و200 مليون دولار) وسيعاني الملايين في الوطن العربي من نقص الغذاء. وستزداد حاجة بعض البلدان للمساعدات والحسنات التي تمن بها عليهم الدول الغنية. كما ستزداد نسبة مدفوعات الدول النفطية على الغذاء، هذا إذا توفرت في الأسواق العالمية الكميات والنوعيات التي تحتاجها شعوبها من المواد الغذائية وهذا إذا رضيت الدول المنتجة عن طموحاتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية المشروعة. وما تجربة العقوبات الاقتصادية الغذائية المفروضة على بعض الدول ومنها العراق إلا مثالا واحدا من الأمثلة لما يمكن أن تتعرض له بلدان وشعوب أخرى من الوطن العربي. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو هل الأزمة الغذائية في الوطن العربي ذات البعد الاقتصادي والسياسي والإستراتيجي الخطير ناتجة عن عجز البيئة العربية عن الوفاء باحتياجات الإنسان، أم هي نتاج خطأ وتقصير الإنسان نفسه والسياسة والنظم الاقتصادية في وطننا العربي؟ ثانيا: أسباب المشكلة الغذائية في الوطن العربي إن الباحثين العرب الذين درسوا المشكلة الغذائية في الوطن العربي اتفقوا على الأسباب المشتركة التالية: 1. أسباب فنية تتعلق باقتصاديات الزراعة: * ضيق المساحة المزروعة * طبيعة الملكية الزراعية وتوزيعها على وحدات صغيرة * شح الموارد المائية وضعف كفاءة استعمالها * ضعف الحوافز التشجيعية * ضعف النفقات المخصصة للجهود العلمية في تطوير الزراعة * عدم وجود سياسة ناجعة ومشجعة للتسعير الفلاحي * عدم وجود سياسة تخزين زراعي وعدم توفر إمكاناتها * التصحر وغزوات الجراد المتكررة. * قلة أو عدم انتظام التساقطات المطرية 2. أسباب اقتصادية عامة: * ضآلة الاستثمارات في القطاع الزراعي وفي الصناعة الغذائية. * عدم الاهتمام بتحسين الحياة في البوادي وحياة الفلاحين مقارنة مع التحسن في المدن. مما أدى إلى هجرة كثيفة من مواقع الزراعة إلى مواقع الصناعة في المدن. مما خلف إهمالا كبيرا للزراعة وأضرارا هائلة للمدن وللصناعة. * تدني الإنتاجية، وذلك نتيجة لتدني مستوى التقنيات المستعملة في الإنتاج. * هجرة العمالة الزراعية من الدول العربية إلى الدول النفطية وإلى الدول الأجنبية الأخرى. 3. أسباب حضارية: * التخلف العام، وفي البادية والقطاع الزراعي بشكل خاص. * انتشار الأمية في الوطن العربي (أكثر من 50%) وفي القطاع الريفي والزراعي بشكل خاص أكثر من 70%. * غياب أو محدودية استخدام الوسائل والأساليب العلمية والتكنولوجية العالية في الزراعة وتربية المواشي و أيضا في الصناعة . 4. أسباب سياسية: * إخفاق مخططات التنمية والإصلاح الزراعي في تحقيق نتائج هامة باستثناء بعض السدود أبرزها السد العالي. * غياب التخطيط القومي في مواجهة المشكلة الغذائية واعتماد كل قطر على إمكاناته الخاصة وعدم تنفيذ ماخطط له رغم تواضعه: - ففي عام 1962 وقعت خمسة دول عربية اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية. - وفي عام 1964 أنشئت على الورق فقط السوق العربية المشتركة. - وفي عام 1968 : أنشئ الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي. -وفي عام 1980 : ثم إعداد برنامج الأمن الغذائي العربي من قبل المنظمة السالفة الذكر. والذي يشمل 150 مشروعا قوميا موزعة على 13 قطرا. - وفي عام 1983 أنشأ المجلس الاقتصادي والاجتماعي العربي فريق عمل قومي خاص بالمشروعات المشتركة في مجال الأمن الغذائي. رغم هذه العناوين الكبيرة والمشروعات الطموحة وغيرها بقي المردود الملموس لها لايكاد يذكر وظلت الاتفاقيات حبرا على ورق. * غياب مشروعات التكامل القومية والثنائية حتى بين مجموعات أو بعض الدول العربية المجاورة: - مجلس التعاون الخليجي؛ - اتحاد المغرب العربي؛ - مجلس التعاون العربي. * عدم استثمار الثروة النفطية عربيا في سبيل تنمية زراعية لسد الفجوة الغذائية وتحقيق الأمن الغذائي العربي والتكامل الاقتصادي. هذا التحليل لن يكتمل إلا إذا نصب على إبراز الخلل في الإستراتيجيات التنموية العربية: - فالأقطار العربية التي اتجهت نحو الاختيار الصناعي، أغفلت المسألة الزراعية ووجهت كل مجهودها إلى تطوير بنية صناعية تحتية قوية. - أما الأقطار العربية التي لم تفرط في الاختيار الزراعي، فإنها مع ذلك لم توفق في تحقيق تنمية فلاحية اكتفائية ومتوازنة. - أما الدول العربية النفطية، فإنها لم تفلح في إرساء بنية زراعية منتجة وقارة. إما بسبب قسوة الظروف الطبيعية أو بسبب البذخ المتولد عن الطفرة النفطية، مفضلة الاعتماد الكلي على دول الغرب الرأسمالي في استيراد المواد الاستهلاكية. وتبقى الأرض العربية عرضة لمجموعة من الاختراقات تتمثل في التبدير وسوء التدبير، الأمر الذي قد يفرض إعادة النظر في طبيعتها، خاصة وأن الأرض لايمكن أن تكون معطاء وأن التدبير لايمكن أن يكون محكما إلا إذا كانت الروابط وثيقة بين الأرض ومن يسهر على استغلالها. ثالثا: بعض الحلول لمعالجة المشكلة الغذائية في الوطن العربي تتمثل خطورة الأزمة الغذائية في الأقطار العربية في ثلاث عوامل: -العامل الأول: هو استحالة تأمين البلدان العربية لما تحتاجه من مواد غذائية من مواردها المحلية في ظل الظروف والمعطيات الحالية. - العامل الثاني: يتجلى في وجود ما تحتاجه الأقطار العربية من الغذاء تحت سيطرة دول قليلة في العالم وخاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهنا تكمن الخطورة. - العامل الثالث: هو ما تشهده أسعار المواد الغذائية من تقلبات كبيرة في الأسواق و التي تميل في الغالب إلى الارتفاع. سبيل المواجهة من هنا نخلص إلى أنه لمواجهة الأزمة الغذائية يجب التدخل في الجوانب التالية: * العمل على إنشاء اقتصاد متوازن بين الصناعة والفلاحة. * تشجيع الاستثمارات الفلاحية * إنشاء السدود لتخزين الموارد المائية وصرفها بطرق عقلانية ورشيدة. * العمل على تحسين وإصلاح الزراعة وتطويرها. وذلك باستعمال الوسائل والأدوات الزراعية الحديثة. * تحسين الحياة في البوادي وحياة الفلاحين حتى نحد من الهجرة نحو المدن وإلى الخارج. * القضاء على الأمية في الوطن العربي وفي القطاع الريفي والزراعي بشكل خاص. * كما أن مسألة التكتل الاقتصادي بين الدول العربية ستلعب دورا هاما في دعم الأمن الغذائي، وتحصينه لأنه سيوفر مجالا واسعا لتبادل السلع العربية واستيعاب ما يمكن إنتاجه.فليس من الطبيعي أن تستمر الدول العربية الغنية في الاعتماد الكلي على الأسواق الأجنبية لتأمين حاجاتها من الأغذية. بينما تزداد الأقطار العربية الفقيرة فقرا برغم توفرها على المياه والأراضي الصالحة للزراعة. ذلك أن الإشكالية الغذائية في الوطن العربي يستحيل معالجتها بدون حلول قومية وعمل عربي مشترك، فعال وذي نظرة استراتيجية تأخذ في الاعتبار العناصر التالية: * إطعام الإنسان العربي من الجوع يجب أن يتصدر أي عمل عربي مشترك؛ * توفير الغذاء يجب أن يكون مهمة إيمانية إنسانية أخلاقية ومصيرية؛ * تخصيص حصة من عائدات النفط للاستثمار الزراعي العربي؛ * التعاون العربي في صناعة وسائل وأدوات الزراعة الحديثة؛ * العناية بالموارد المائية العربية واستغلالها جماعيا وإقامة السدود المشتركة. الدكتور: رضوان زهرو أستاذ الاقتصاد بكلية الحقوق. المحمدية