لقد كان المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها في الموعد لإرسال رسالة قوية وصريحة عنوانها: "فداك أنفسنا يا رسول الله" .. وقد علم القاصي والداني منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين بمختلف توجهاتهم ومذاهبهم؛ مما يحفز العقلاء على السعي للتعرف على هذا الرسول الكريم الذي حرك العالم حركة لا يستطيع أي شخص آخر أن يكون سببا في مثلها، في قوتها وعفويتها. وهذا يذكرنا بقول الله تعالى في حادثة الإفك: {لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم} قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "حدثنا أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية؛ قالوا: كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهله لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والوقيعة في عرضه؛ عجلنا فتحه وتيسر ولم يكد يتأخر إلا يوما أو يومين أو نحو ذلك، .. قالوا: حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظا عليهم بما قالوا فيه"اه. [من كتابه: "الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 117)] والفتوحات الإسلامية اليوم؛ هي فتوحات الدعوة وعرض هذا الدين والإقناع بوجوب الدخول فيه بالحجة والبرهان والأسلوب الحكيم والكلمة الطيبة، وقد حقق هذا الفتح مكاسب عظيمة (كشفت دراسة أصدرتها منظمة "عدالة للجميع ضد التمييز" أن عدد المسلمين في قارة أوروبا وحدها بلغ 45 مليونا). ولا يفوتنا ونحن نسجل افتخارنا واعتزازنا بهذا التعبير الشعبي التلقائي عن قدر الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم في النفوس؛ أن ننبه على ضرورة تخليته من المخالفات الشرعية، ومنها العنف وقتل السفراء وإتلاف الممتلكات .. فإن هذا محرم في ديننا وفي سنة نبينا صلى الله عليه وسلم: عن عائشة قالت: "دخل يهودي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: السام عليك يا محمد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وعليك، فقالت عائشة: فهممت أن أتكلم، فعلمت كراهية النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، فسكت. ثم دخل آخر، فقال: السام عليك فقال: عليك، فهممت أن أتكلم، فعلمت كراهية النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، ثم دخل الثالث فقال: السام عليك، فلم أصبر حتى قلت: وعليك السام وغضب الله ولعنته إخوان القردة والخنازير! أتحيون رسول الله بما لم يحيه الله؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، قالوا قولا فرددنا عليهم، يا عائشة عليك بالحلم، وإياك والجهل، إن الله يحب الرفق في الأمر كله" [رواه ابن خزيمة في صحيحه وأصله في الصحيحين] وفي صحيح مسلم: قال صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة؛ إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه"اه وعن نعيم بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجلين جاءا من عند مسيلمة: «أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما». [رواه أحمد وأبو داود] وعن المغيرة بن شعبة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم عليكم: عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال" [رواه البخاري] خطأ غيرنا: لقد كذب منتجو الفيلم على سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكروا عنه ما لا وجود له في الواقع استكبارا في الأرض ومكر السيئ .. وقد أساء بابا الفاتيكان حين تجاهل الأمر مع أنه معني به بصفته داعيا إلى السلام والتعايش كما يزعم .. ولقد أساء السياسيون الغربيون حين أخلوا قوانينهم مما يصون عرض الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لا سيما المشهورين الذين يؤمن بهم ملايين الناس على وجه الأرض .. خطؤنا ومسؤوليتنا: لكن تلك الأخطاء جاءت على أصلها، وإنما يهمني في هذه المقالة؛ إبراز خطئنا نحن المسلمين الذين يفترض فينا الولاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والتعظيم الشرعي لقدره، والتمسك بدينه وهديه .. أخطأ بعضنا حين تنكر لهذا الرسول الكريم ولم يظهر ما يلزم من توقيره وتعزيره؛ مصداقا لقول الله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] وكان هذا التنكر موقف القناة الثانية التي ندفع من جيوبنا جزءا مهما من ميزانيتها، ومع ذلك لم ترو غليلنا في الدفاع عن عرض نبينا صلى الله عليه وسلم، ولم تظهر أي موقف لإدارتها يندد بحدث الإساءة .. ولم تكن الصحافة الورقية أحسن حالا من القناة الثانية؛ فإنها لم تكلف نفسها عناء كتابة مقال استنكاري؛ كتلك المقالات التي تدافع بها عن رموز العلمانية والإلحاد باسم احترام الآخر ونبذ الكراهية .. أما الناشط العلماني أحمد عصيد، فقد تجاوز التنكر والسلبية؛ إلى استغلال الحدث لتمرير بعض طعونه في الإسلام؛ بزعمه أن الفيلم صادِقٌ فيما نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من نقائص وافتراءات .. وأخطأ بعضنا حين لم تؤد معظم حكومات الدول الإسلامية واجبها في التعريف بهذا الرسول العظيم، لا سيما بعد انطلاق حملة الإساءة مع الرسوم الدانماركية وتصريحات البابا الحالي قبل سنوات .. وهنا نتساءل: أين هي جهود وزارات الخارجية وسفارات الدول الإسلامية وقنصلياتها من أجل وضع برنامج سياسي وإعلامي بالتنسيق مع وزارات الشؤون الإسلامية، يليق بمقام هذا الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم؛ تعريفا به ونشرا لدعوته وذبا عن عرضه ..؟؟ وأين هي جهود المسؤولين السياسيين في السعي الدبلوماسي السياسي لسن قوانين تجرم المساس بالرسل الكرام عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام؟؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن الله فرض علينا تعزيز رسوله وتوقيره؛ وتعزيزه: نصره ومنعه، وتوقيره: إجلاله وتعظيمه. وذلك يوجب صون عرضه بكل طريق، بل ذلك أولى درجات التعزير والتوقير"اه [المصدر المتقدم]. وأخطأ بعضنا حين زهد في التمسك بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والعمل بتوجيهاته المباركة .. ومما يحز في النفس أنك ترى بعض المسلمين يبذل الواحد منهم نفسه فداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم هو مقصر في طاعته؛ يرتكب الفواحش والمعاصي ولا يجاهد نفسه لتركها؛ مع أنه لو خاطبه رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة لما تردد في طاعته: روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن أبي أمامة قال:" إن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ادنه، فدنا منه قريبا قال: فجلس. قال النبي صلى الله عليه وسلم: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم"، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم، قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه. فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء"اه. اللهم صل على الرحمة المهداة. وقريب من هذا الخطأ؛ خطأ بعضنا حين لم يسلك الطريق الصحيح لتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والتعبير عن محبته .. حيث أن البعض يحصر التعبير عن حبه للنبي صلى الله عليه وسلم في جلسات المديح وإظهار المحبة والهيام والعشق باللسان واستعمال ألفاظ من قبيل: "ملكت مهجتي يا سيدي يا رسول الله" .. ثم هو في واقعه العملي بعيد كل البعد عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر وترك ما عنه زجر والاقتداء بما يشرع لنا الاقتداء به فيه، بل من هؤلاء من يعتبر الاقتداء به والعمل بسنته تشددا وغلوا وربما تطرفا وإرهابا! تعصى الرسول وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس بديع لو كنت تحبه لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع إن تفريطنا في الاقتداء بهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لهو أكبر سبب يؤدي إلى إعلان المجرمين التطاول عليه بالكذب والزور والبهتان، وإلا فلو قدمنا للعالم نموذجا عمليا قائما على أساس الاقتداء به في ما كان عليه من صدق وأمانة ورحمة وبر ووفاء وشجاعة وحياء وسمت حسن وترتيب دقيق وتنظيم محكم لشؤونه في عبادة الخالق ومعاملة الخلق والأكل واللباس والمعاشرة الزوجية والتدبير السياسي وسياسة الناس بالعدل والحكمة ..؛ لكان هذا سببا كافيا لزرع حبه في قلوب المنصفين، والإعجاب به في نفوس العقلاء المتزنين .. إلا أننا نقول والأسف يعتصر قلوبنا: إن الباحثين الغربيين المنصفين علموا من سيرته ما لم يعلمه كثير من المسلمين، وتلك المعرفة قادت أمثال الباحث والمؤرخ والفيزيائي الأمريكي الدكتور (مايكل هارت) إلى وضع المصطفى صلى الله عليه وسلم على رأس 100 شخصية الأكثر نجاحا عبر تاريخ البشرية، وقال مسوغا ذلك: "محمد هو الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي"اه [كتاب المائة الأوائل لمايكل هارت، ترجمة: خالد عيسى، ص. 21]