اعتبر كثيرون ما جاء في حوار السفير الأمريكي صاموئيل كابلان مع موقع "هسبريس"، دعما صريحا من "العم سام" للحكومة المغربية الحالية، بينما قد لا يعدو الأمر كونه مجرد "نصيحة" من صديق قديم إلى صناع القرار في مغرب اليوم، وهو ما يمكن استنتاجه بوضوح من قوله :"الحكومة تتجه نحو إصلاح العديد من الأمور، خصوصا ما يتعلق بالاقتصاد والتعليم وكل ما يمس الحياة اليومية للمواطن المغربي، وأنا أبتسم حين أطلع على ما تكتبه الصحافة المغربية وأجد الناس ينتقدون حكومتهم، وأرى أن كل أنواع الصراع السياسي بالمغرب ستساهم بشكل كبير وفعال في تلك الإصلاحات، فالديمقراطية ليست سهلة المنال."... وقوله قبل ذلك :"..حزب العدالة والتنمية يستحق الكثير من الاحترام والتقدير لأنه فاعل سياسي كبير.. لقد نظم نفسه بشكل جيد خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة، وركز في تواصله على 3 محاور هي توسيع الطبقة المتوسطة، ومحاربة الفساد والرشوة، وإصلاح النظام التعليمي.. وبهذا حصل على عدد كبير ومهم من الأصوات، وكان نصيب نجاحه من أصوات مواطنين متعاطفين مع الحزب ليس لكونه فقط إسلاميا..". فعلى عكس ما حاول البعض قراءته من وراء هذه التصريحات، من أن أمريكا تدعم حزب بن كيران، أعتقد أن الإدارة الأمريكية تقدم ربما، نصيحة عادية لصناع القرار في المغرب، خاصة بعد التطورات التي عرفتها الساحة السياسية في الأسابيع الأخيرة، حيث عاد مجددا شبح "الازدواجية" ليطل برأسه : حكومة منتخبة بسلطات منقوصة، وحكومة ظل مستترة لكنها تتوفر على صلاحيات فعلية تتخطى الدستور والأعراف السياسية، وكل الوعود التي رافقت إقرار الدستور الجديد. وأظن أن المتابعين لما يجري في الساحة المغربية حاليا، لم يكونوا في حاجة إلى "نصيحة" أجنبية لرسم صورة قاتمة لواقع ينذر بخطر ربما لا يتوقعه كثير من مهندسي المرحلة. فالاعتقاد بأن الربيع العربي.."مر من هنا"، وأقصى ما استطاع انتزاعه هو دستور جديد مازال الخلاف قائما حول أسلوب تنزيل بعض مقتضياته، بل أصبحنا أمام تنظيرات تدفع في اتجاه العودة إلى الصفر، بما أن الزخم الذي جاء بالحكومة الحالية تراجع كثيرا وأصبح بالإمكان إعادة ضبط قواعد اللعبة وفق المستجدات الأخيرة.. هذا الاعتقاد نوع من القراءة الخاطئة للواقع، والتي يفترض أنه لم يبق لها مكان بعد الذي جرى في المنطقة العربية. بل لم الذهاب بعيدا، ففي الأردن مثلا اليوم هناك حراك قد يتطور إلى ما هو أكبر، خاصة بعدما لم تعد المسكنات تجدي نفعا، فالشعب الذي كان قبل وقت قصير يطالب بإسقاط الحكومة، ونجح فعلا في تغيير أربع حكومات في أقل من عامين، لم يعد اليوم يقنع بتغيير وزير أول أو حتى حكومة بكاملها، بل برفع السقف بشكل غير متوقع، وقد نفاجأ خلال الأيام والأسابيع القادمة بتصعيد لم يكن ليخطر على البال. بصريح العبارة، إن المسكنات والحلول الترقيعية لم تعد تجدي نفعاً أمام السخط المتنامي من القهر والفقر والتخلف. فكيف نقنع الناس اليوم بأن "الاستقرار" نعمة، والحال أن مصر "الثورة" حققت في 60 يوما ما عجزت عن تحقيقه الديكتاتورية العسكرية ولوبيات رجال المال على امتداد 60 عاما؟ فأمريكا التي توقف المغاربة كثيرا عند تصريحات سفيرها بالرباط، وهي تصريحات فضفاضة وحمالة أوجه، وبعدما كانت تتعامل مع مصر ما قبل الثورة باستعلاء وعبر أدنى القنوات الديبلوماسية، لاحظنا كيف أنها أسقطت مليار دولار من ديونها على هذا البلد، بل رغم انشغال الجميع بالانتخابات الرئاسية، تم شحن أكثر من مائة رجل أعمال من الوازنين على مستوى العالم، ليتواصلوا مع الحكومة الجديدة على أمل تقديم إغراءات أفضل، خوفا من خروج مصر من الحظيرة الأمريكية. ما أريد قوله هنا، هو أن الذين بنوا تصوراتهم "المستقبلية" على احتمال خفوت "الربيع العربي" وعودة الوضع إلى ما كان عليه، لم يحسبوا جيدا، مرة أخرى، حساب تغير اتجاه حركة التاريخ، الذي يبدو أن عجلته أصبحت تدور بسرعة أكبر وفي مسارات مجهولة بالنسبة لمن يعتبرون أنفسهم مهندسي المرحلة. إن الانقضاض على حزب العدالة والتنمية بالذات، وبطريقة متزامنة ومن أكثر من جهة، لا يعني فقط أن طريقة تفكير "الفلول" واحدة في المشرق والمغرب، بل يدل على أن الأخطاء متماثلة أيضا. فالاعتقاد بأن الحملات الإعلامية الممنهجة وتفريخ الشائعات، ومحاولة دق الأسافين بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة، ووضع العصي في عجلات حزب العدالة والتنمية، يمكنها أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، فهذا هو المدخل نحو عواصف قد لا يتسع لها "فنجان الدولة" هذه المرة. ومن هنا يمكن أن نفهم "النصيحة" التي جاد علينا بها السيد كابلان. فهو يقول إن الحكومة "تتجه نحو إصلاح العديد من الأمور، خصوصا ما يتعلق بالاقتصاد والتعليم وكل ما يمس الحياة اليومية للمواطن المغربي"، وهذا ليس كلاما مرسلا أو مجاملة مجانية اقتضتها المناسبة، بل هو اعتراف بأن الحكومة تمتلك رؤية وأنها بدأت فعلا في العمل، وكل المطلوب هو إعطاؤها فرصة لإيصال الأمور إلى نهايتها الطبيعية، كما أن "ابتسامة" السفير حين يطلع "على ما تكتبه الصحافة المغربية ويجد الناس ينتقدون حكومتهم"، ليست بالضرورة ابتسامة فرح وسرور بمستوى النضج الذي وصلته التجربة الديموقراطية، بل قد تكون سخرية من المستوى الذي نزل إليه النقاش السياسي في الآونة الأخيرة، ولذلك ختم كلامه في هذا السياق بالقول إن "الديموقراطية ليست سهلة المنال". وإذا كنت قد تطرقت أعلاه إلى الجانب المرتبط بالعامل الخارجي المتمثل في تأثير الربيع العربي على الوضع العام في المغرب، على اعتبار أن أية قراءة خاطئة لما جرى ويجري قد تقود البلد إلى ما لا تحمد عقباه، لأنه على الأقل لا يعقل أن المشاريع التي أقبرت في الشرق يمكن أن تبعث في الغرب، فلابد من التوقف أيضا عند جانب من الجوانب التي تتضمنها العوامل الداخلية، التي لها دورها الحاسم في تحديد ملامح المستقبل. وهنا أيضا، لابد أن نتوقف في كلام السيد كابلان عند وصفه لحزب العدالة والتنمية بأنه "يستحق الكثير من الاحترام والتقدير لأنه فاعل سياسي كبير". فهذه أيضا ليست شهادة مجانية بل هي تقرير لواقع نشاهده يوميا. فالحزبان الوحيدان المؤهلان لمنافسة حزب المصباح هما حزبا الاستقلال والاتحاد الاشتراكي. وإذا كان هذا الأخير قد خرج من تجربته الحكومية بخسائر جسيمة يصعب تداركها في المستقبل القريب، فإن مؤتمره الوطني القادم قد يكون مناسبة لتوسيع الشروخ التنظيمية، بدل رأب الصدع الذي ظهر مع ولادة تجربة التناوب ولم ينته بانتهائها. كما أن حزب الاستقلال الذي كان يعتبر على الدوام "ماكينة" تنظيمية فعالة، وجد نفسه لأول مرة في تاريخه أمام مفترق طرق مفصلي، قد يكون بداية التقهقر في غياب قيادة كاريزمية قادرة على فرض الانضباط الستاليني داخل وخارج أسوار "كريملين باب الحد". فهذان الحزبان اللذان ضما على الدوام النخب الفكرية والبرجوازية التقليدية، أصبحا في وضع لا يحسدان عليه، أما بقية الأحزاب فالجميع يعلم أنها بلا قواعد، وأن وجودها المناسباتي على الأرض مرتبط فقط بالمواسم الانتخابية، حيث يتحمل المرشحون وحدهم في الغالب هم خلق فروع حزبية مؤقتة.. واستقطاب قواعد مؤقتة أيضا، وأكبر شاهد على ذلك "المهن الموسمية" التي توفرها الحملات الانتخابية، والتي تطورت في لحظة ما إلى قصف المنصة التي كان يحتلها كبار التجمعيين في نشاط حزبي، لأن الاستعانة ب"هجيج" الأحياء الشعبية لتكثير سواد المناضلين ليس خطوة مأمونة العواقب. فهل هذه هي الأحزاب التي ستواجه حزب العدالة والتنمية في الاستحقاقات القادمة؟ مرة أخرى نجد الجواب في حوار السفير كابلان الذي جزم بأن حزب المصباح لم يحصد فقط أصوات المتعاطفين مع التيار الذي يمثله، بل حصل على أصوات الراغبين في التغيير، الذين لن يمنحوا أصواتهم بالضرورة في أية استحقاقات قادمة للأحزاب التي تآكلت، وتوقفت ساعتها البيولوجية عند أدبيات "الحرب الباردة" بين اليسار واليمين، بل قد يبحثون عن منفذ آخر للتعبير عن "الموقف" والشارع خيار مطروح بطبيعة الحال. وأسجل بكل أسف، أنه بعد ردود الأفعال الساخرة التي خلفها مقال وكالة المغرب العربي للأنباء الشهير حول "الخطاب الشعبوي" لرئيس الحكومة، انضاف إليه مؤخرا تهريج سعيد الناصري الذي يعرف قبل غيره أن "فنه" لا يمكن أن "يزهر" إلا في مستنقعات العفن الفني بدار لبريهي وعين السبع، التي فتحت أبوابها بفضل جهات نافذة ومؤثرة، وأتمنى صادقا أن يكون "تهريجه" هذا اجتهادا شخصياَ، وليس "خدمة" حاول تقديمها أو طلب منه تقديمها، خاصة وأن نفس "النكتة" جاءت على لسان الخياري، المستفيد هو الآخر من كرم التلفزة مقابل تهريجه وإسفافه. ما هو وزن "كرافطة" بن كيران في الانتخابات؟ هل سيسأله المصوتون إن كان قد اشتراها من أول "مانضة" أم أهديت له؟ هل سيحاسبه الناخبون لأنه يستعمل لغة يفهمونها دون "ترجمة"، ولا يستعلي عليهم، بل يسير في الشارع ك"أيها الناس"؟ أظن أن هذه الأسئلة تجد بدايات أجوبة عليها هي أيضا في حوار السيد كابلان، الذي يبدو أن سفارته تدرك الحجم الحقيقي للتيار "الأصولي" أكثر من منافسيه ومناوئيه في الساحة الحزبية.. ولا أدري أي حزب من أحزابنا الجديدة والقديمة يمكن أن يواجه "المدفعية الشعبوية الثقيلة"، خاصة بعد ما لم يعد بالإمكان الاستعانة بالأدوات "إياها" للتحكم في رسم الخرائط السياسية؟ أما الخوف الأكبر، فهو من طبيعة الأدوات المستعملة في الحرب على حزب العدالة والتنمية، والتي تكشف مرة أخرى أننا نزلنا من الاحتراف إلى الهواية...التي قد تقود الشارع المغربي إلى "تدارك" ما فاته من الربيع العربي...والخيرة في ما اختاره الله طبعاً.. [email protected]